إشكالية الاتكالية وعقدة اللامبالاة في الفرد العراقي

 

من السلبيات المزمنة التي تمخضت عن أزمنة الحصار و القمع الديكتاتوري ، ورافقت المجتمع العراقي ، متحولة إلى أمراض و عقد نفسية هي : التعود على تلقي الأوامر الصارمة لإنجاز شيء ما خارج إطار المصلحة الذاتية أو ذلك المتعلق بالمصلحة العامة ، و كذلك عدم التحرك إلا بناء على هذه الأوامر الصارمة ، مما نتجت عن ذلك ــ كتحصيل حاصل ـــ إشكالية الاتكالية و عقدة اللامبالاة و ، انعدام روح المبادرة الفردية و الجماعية في حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية و العمرانية و البيئية بجهود جماعية بمعزل عن الدولة ، وغير ذلك من مشاكل و معضلات عالقة ، و هي مشاكل و أزمات كثيرة وعديدة ـــ يعرفها السيد القارئ بكل تفاصيلها المطروقة مرارا ــ وهي بحاجة ملحة إلى حلول ومعالجات ، بغية التخفيف من أثقالها المرهقة عن كاهل المجتمع ، و المنعكسة على شكل معاناة وعذابات يومية خانقة ، تحيل حياة المجتمع إلى ضرب من معاناة متعددة الأوجه و النواحي لا تعرف النهاية ، و لكن مع ذلك لا زالت ظاهرة التفرج السلبي على هذه المشاكل بعدم اكتراث عجيب وهي السائدة و المهيمنة حتى الآن وبكل إهمال ولا مبالاة ، و ترك كل ذلك على عاتق دولة شبه منهارة و عاجزة و مشلولة إلى حد ما ، دولة منهكة و محتضرة و كأنها في حالة من ينتظر طلقة الرحمة ..

غير إن المجتمع العراقي نفسه ينظر إلى هذه المشاكل و الأزمات بلا أبالية و عدم اكتراث أو اهتمام ، منتظرا ( لا ندري من مَن ) ليحل هذه المشاكل و الأزمات بالنيابة عنه ، في الوقت الذي تتفاقم فيه هذه المشاكل و المعضلات و تزداد تراكما خطيرا ليتخذ طابع الاتساع والانفلات و الفوضى ، لتصبح وكأنها عصية عن الحل من كثرة تعقدها و تشابكها و تداخلها و طابعها المزمن ، و مما يزيد الأمور تعقيدا و إشكالية هو تعايش المجتمع مع هذه المشاكل و الأزمات بشكل يعطيها طابع الاعتيادية و شيئا من القبول و" التطبيع " ، على الرغم من الأصوات المرتفعة بالشكاوي و التظلمات والنقمة والاحتجاج والرفض المصحوب بأصوات السخط ضد الساسة المتنفذين والحكام الفاسدين . ولكن دون أن يتجاوز ذلك بشيء من تغيير أو حل جذريين لتلك الأزمات والمشاكل العالقة .

ومما يثير الاستغراب هو الدور الذي لعبه النظام " الديمقراطي " الجديد في زيادة و تعميق هذه الظاهرة السلبية الأنفة الذكر : بل و مضافا إليها ظاهرة سلبية جديدة وهي ظاهرة التسيب و احتقار العمل و الإنتاج و الركون نحو التكاسل و التقاعس في أكبر ظاهرة للتنبلة والعبث واللاجدوى في عصرنا الراهن ، و كأننا نشاهد أبطالا فعليين لمسرحيات العبث و اللامعقول لبيكيت و يوجين يونيسكو.و أدموف

فهذه القيم الاجتماعية المتدهورة بحاجة إلى تسليط ضوء أكبر و أوسع بهدف تخليص المجتمع من أفاتها الخطيرة و المدمرة عبر تناولها بمزيد من صراحة حتى لو كانت صادمة أحيانا ، لكونها تُقيد طاقات المجتمع الروحية والمادية الجبارة و تهدرها سلبا ، و على حساب تزايد معاناة المجتمع العراقي ذاته ، و تكبل جهوده في عمليات البناء و التغيير ..

و بما أن النقد بحد ذاته لا يكفي فنود هنا أن نقدم مجموعة اقتراحات متواضعة ربما قد تساعد بشيء للخروج من شرنقة الاتكالية و التفرج السلبي نحو رحاب المبادرات الفردية و الجماعية المؤدية إلى الاهتمام بالمصلحة العامة و على نحو :

نشر ثقافة ووعي و أهمية المبادرات الفردية و الجماعية للعمل من أجل المصلحة العامة ، ابتداء من الحرص على المصالح الوطنية و المال العام من ثروات و أموال وممتلكات تعود للدولة والاهتمام بشؤون الرعاية الاجتماعية ـــ هنا نقصد الأطفال المشردين والأيتام و الأرامل وهم يعدون بالملايين ـــ و تسليط الضوء عليها : معالجة و حلولا مناسبة ـــ طبعا بالتنسيق مع سلطات البلديات المعنية بالأمر ـــ و كذلك الاهتمام بأمور و مشاكل البيئة و حمايتها و صونها من الرمي العشوائي للنفايات منها العادية أو الملوثة بالكيمياويات الصناعية أو الطبية ، فضلا عن أشياء أخرى مضرة على البيئة بشكل عام ، وهنا لا مهرب من التأكيد على أنه ثمة مجازر رهيبة تُرتكب الآن ضد البيئة العراقية ومن قبل المجتمع ذاته ، و ذلك بسبب الرمي العشوائي للنفايات المضرة وهي مزيج من خردوات من حدائد وبقايا سيارات ومواد كيماوية من علب و قنان تبلغ ألافا من أطنان متراكمة على شكل أنقاض و نفايات !!..

*لقد آن الأوان ليدرك المجتمع برمته بأن المصلحة العامة إذا كانت في حالة جيدة و عافية ممتازة ، فأنها ستنعكس تلقائيا على المصالح الفردية و بشكل إيجابي و نفعي متبادل ، تاركة تأثيراتها الإيجابية على عموم المجتمع ..

**فثمة شعوب و مجتمعات متمدنة و صاحبة سجل حافل بمبادرات فردية و جماعية من ناحية الاعتناء بغاباتها و شواطئها و بمجمل حقول بيئتها ورعايتها بكل عناية ، كثروات وطنية وقيمة و ثمينة ، وبمعزل عن الدولة و بيروقراطيتها وحساباتها المادية..

فلماذا لا نتعلم من هذه المجتمعات روح المبادرات ، كقدوة و نقلدهم على هذا الصعيد كقيم وطنية و اجتماعية أصيلة ؟..

ملاحظة : نحن هنا لا نعمم قطعا ، لعلمنا بوجود مبادرات فردية و حتى جماعية تبذل جهدها على هذا الصعيد ، ولكن دون تأثير ملموس أو مؤثر حاسم ..