تراث البصرة الفيحاء.. أين هو الآن ؟

 

سنحاول في هذا الموضوع ان نتطرق الى تراث البصرة الفيحاء ومن خلاله نبدأ بجماعة الفلسفة والعلم ( اخوان الصفاء وخلان الوفاء) ، ودورهم في تاريخ الفكر العربي الاسلامي في القرن الرابع الهجري، وكيف عالجوا بعض فصول الحضارة الاسلامية في الشمولية الحضارية، والقوة النشطة للانسان الفرد وهو يمارس نشاط حياته اليومية ،وكيفية تكامل الوجود البشري عن طريق الفكر والتعقل،لتحقيق الهدف الذي يربط بين افراد المجتمع وبناء الدولة. لكنهم جوبهوا بالمقاومة من قبل وعاظ السلاطين مثل ما جوبهت به حركة المعتزلة- ثورة العقل – التي لو استثمرت واستمرت لنحن اليوم غير الذي نراه من التخلف والانغلاقية. وبمثل ما جوبهت حركة النهضة العراقية المتمثلة بالفكر الحر كما في افكار محمد باقر الصدر وعز الدين سليم وكل الشرفاء الاخرين .

أختلفت أراء العلماء والمؤرخين في تسمية الاخوان ومذاهبهم ذلك انهم عملوا جهدهم على تغطية حقيقة امرهم واسمائهم. واختلف المؤرخون في الرسائل وواضعيها، فالقفطي ينسبها الى المعتزلة،واخر ينسبها الى الحكَم القرطبي الاندلسي، ومؤرخ ثالث يدعي انها تعود الى جماعة من فرق الاسماعيلية ،واراءُ اخرى كثيرة تنسبها لاخرين. وعندي انها فرقة من العلماء الفلاسفة العرب والذين تعربوا بعد ظهور الاسلام ، اجتمعوا على تحقيق ما يرغبون بتحقيقه في مضمار الحضارة الاسلامية دون غرض ذاتي مقصود.

لكن المتتبع لتاريخهم يرى ان الجماعة نشأت كجمعية سياسية دينية ثقافية لم تفرق بين الاديان نافية وجود المذاهب والملل في البصرة بعد استيلاء البويهيين على بغداد في سنة 334للهجرة الذين خلقوا كل هذه الهلمة من المذهبية المتطرفة التي لا تستند على قيم واخلاق الدين،وكان لها فرع في بغداد وهي تتكون من اربع طبقات هي:

- الاولى : تكونت من شبان تتراوح أعمارهم بين خمسة عشر الى ثلاثين سنة ينقادون لاساتذتهم أنقيادا تاماً.
- الثانية: تتكون من رجال تتراوح اعمارهم بين ثلاثين الى اربعين سنة يتلقون الحكمة الدنيوية من حكامهم.
- الثالثة: تتكون من رجال تتراوح أعمارهم من اربعين سنة الى خمسين سنة ،وهم كما يسمونهم طبقة الحكماء.
- الرابعة: تتكون ممن تجاوزوا الخمسين عاماً وهم الذين أرتقوا الى الطبقة العليا ،وصاروا يشهدون حقائق الاشياء كما هي كالملائكة المقربين.
- لكن الملاحظ ان الجمعية قد خلت من العنصر النسائي تماماً،ولم نلمس التفسيرُالصحيح لذلك ممن عاصرها او من المقربين لها. اغلب الظن ان سبب هذا يعود الى ما تعارف عليه المجتمع من العادات والتقاليد التي تستبعد مشاركة المرأة في أعمال الرجال وهي عادات عرفية خلقها رجال الدين لينفردوا بجنس المرأة للمداعبة والاستمتاع خلافا لما أقره الشرع ،واذا صح هذا فهو مَثلمة بحقهم وحق العراق والعراقيين ،فللمرأة مكانة في تاريخ العراق منذ ان وضع حمورابي قوانينه في حماية الانسان كل الانسان(انظر قوانين حمورابي في المتحف العراقي لعلها سرقت اليوم من قبل اعداء المرأة من وعاظ السلاطين ) ) وان حاربتها اليوم جماعات التخلف من التراثيين الملتحين.،هذا البلد الذي شاركت المرأة الرجل فيه العلم والدراسة منذ نشأة مدينة الكوفة سنة 17 للهجرة.( أنظر دائرة المعارف الاسلامية تحت كلمة كوفة)..

ورغم تعدد طبقات هذه الجماعة وأهدافها الكبيرة،ألا ان التاريخ لم يدون لنا أكثر من خمسة أسماء كما ذكرهم ابو حيان التوحيدي وهم، ابو سليمان محمد البيستي المعروف بالمقدسي تلميذ الكندي الفيلسوف العربي المشهور وهو على الارجح منشىء رسائلهم،وابو الحسن علي بن هارون الزنجاني ،ثم ابو احمد المهرجاني المسمى بالنهرجوري،وابو الحسن العوفي، وفريد بن رفاعة. ويؤخذ من كلام لابي حيان التوحيدي بأن هذا الاخير كان متهماً بمذهبه. ولا شك بأن أنضوى تحت اسم هذه الجمعية رجال من طبقات المجتمع المتباينة كما يفهم من رسائلهم ،وان سكت التاريخ عن ذكر ذلك.لقد قال بعضهم: ( لنا اخواننا من اولاد الملوك والامراء والوزراء والعمال والكتاب) ،ومنهم طائفة من أولاد الاشراف والدهاقين والتجار والصناع والمتصرفين وامناء الناس،وقد ندبنا لكل طائفة منها واحداً من أخواننا لينوب عنا في خدمتهم.

لكن بعض المؤرخين يعتقدون ان الرسائل من صنع الفرقة الاسماعيلية الباطنية بزعامة احمد بن عبدالله الاسماعيلي الذي يعود نسبه الى الامام جعفر الصادق (ع). ويبدو من خلال الدراسة المقارنة بدأ الاعتقاد يميل الى انها من صنع الافكار الاسماعيلية ،وأنها من وضع الدعاة الاسماعيلية. لكن الملاحظ ان هذه الجماعة المثقفة آبت ان تنتقل الى مكان اخر غير العراق،لا كما نلاحظ اليوم ان مؤتمراتنا الثقافية والصحفية في غالبتها تعقد في بلاد الاخرين على مزاجية المسئولين.

أما اصل التسمية أشتق من صفوة الاخوة المبنية على التعاون لبناء مدينة فاضلة روحانية وتسميات اخرى تزخر بها كتب التاريخ ،وهذا هو تاريخ العراقيين الصادقين .

وبغض النظر عن اهدافهم السياسية والدينية ،نجد ما يؤثر عن أفراد هذه الجمعية أنهم ألفوا أحدى وخمسين رسالة.خمسون منها في مختلف الموضوعات العلمية والفلسفية،ومقالة واحدة جامعة لانواع الرسائل على طريقة الاختصار والايجاز. منها ثلاثة عشر رسالة في الرياضيات،وسبعة عشر رسالة في الطبيعيات، وعشرة رسائل في العلوم النفسية والعقلية،وعشرة رسائل في العلوم الناموسية الالهية والشرعية، وواحدة جامعة لكل الرسائل.
تدل هذه الرسائل على ان اخوان الصفاء أصابوا من الرقي الفكري حظاً كبيرًواقتبسوا اراءهم وعلومهم من جميع المذاهب والاديان وذلك انهم قالوا:"ان الشريعة دنُست بالجهالات وأختلطت بالضلالات ولا سبيل الى غسلها وتطهيرها الا بالفلسفة العملية والنظرية ،وافردوا لها فهرساً وسموها رسائل اخوان الصفا وكتبوا فيه اسماءهم وبثوها في الوراقين ووهبوها للناس" ولهم نظريتهم المعمقة في العلم والنشاط العقلي،فقالوا :
"ان النفوس لا تستطيع الارتقاء في مدارج معرفة الله معرفة بريئة من الشوائب الا بالزهد والاعمال الصالحة والوفاء للمبادىء"وحين عالجوا الرياضيات قالوا:ان الغاية المقصودة في الحساب والهندسة ارشاد النفوس والتوصل بها من المحسوسات الى المعلولات،وبحثوا في المنطق وفي الله والعالم والنفس الانسانية ،وحاولوا ان يوفقوا بين العلم والحياة وبين الفلسفة والدين. لكننا اليوم لم نشاهد فرقة من الفرق المذهبية تملك هذا التوجه الثقافي الرصين سوى الفرقة وتجسيد الدين وكأنه صنم يعبد على طريقة التراثيين في عهد ابراهيم الخليل. لأن مبادؤهم كانت انسانية لا طمع فيها ولا تدليس .

ولا شك ان رسائلهم تمثل الحياة العقلية في ذلك العصر،كما تمثل الحياة السياسية ،فهي مرآة تنعكس فيها الحياة العقلية أنعكاساً مباشراَ.ورسائلهم أشبه بدائرة معارف فلسفية علمية جمعت كل ما يمكن تحصيله من الرجل المثقف ،وتعتبر مدخلا الى رسالة جامعة ،هي خلاصة العلم وغاية الغايات التي هدفت اليها الجماعة. فهل ان مثقفينا اليوم ممن اصبحوا نوابا للشعب فكروا يوما بالمواطن بعد ان شبعوا لحد التخمة مالا حراما ليستقروا عند الاخرين بعد ان ملئوا الدنيا صراخا عن الوطن والوطنيين وفي النهاية كشفتهم الظروف ليكونوا عبيدا عند الظالمين.

ولرسائل اخوان الصفا قيمة اخرى،هي قيمتها الفنية الخالصة ،فقد عني كتابها بألفاظها واساليبها عناية أدبية خاصة ،ففيها خيال كثير وتشبيه متقن،وألفاظ متميزة،ومعانٍ ميسرة،والسبب يعود الى أنها اتجهت الى جمهرة الناس للتعليم والتثقيف والمعرفة العامة،لا الى الحكام والمسيطرين على الدولة ومناطق النفوذ فيها لانهم عرضوا عن المالل والجاه وتمسكوا بقول الامام علي(ع) حين قال :المال والسلطة السائبة تفسد اخلاق الرجال كما هو اليوم في عراقنا المخطوف من قبل الناكثين بالعهد والقسم واليمين..فهم بعيدون عن اي تطلع سياسي او مصلحة ذاتية،وهذا هو منتهى الوفاء للعقيدة والتوجهات الادبية والعلمية التي يعتقدون بها والتي عملوا من اجل تحقيقها.

ان احدى الميزات البارزة في هذه الرسائل هي عنصر الشمولية الذي يتميز به مفهوم الحضارة وهو العنصر الاول.وتنطلق هذه الشمولية من الضروريات والحاجيات التي يزاولها الانسان في نشاطه الاجتماعي ،وهي تشمل نتاج جميع القيم الفكرية والمادية للانسانية.ففي مجال الحضارة الفكرية او الروحية ،نجد مثلا الافكار الفلسفية والقيم الاخلاقية والجمالية والصور الفنية ،فهم يحثون على الاعتدال بين رغبة النفس الانسانية ومعرفة حقائق الاشياء،وبدونها يخرج الانسان من الدنيا دون معرفة بها وفائدة للاخرين ،لذا فمسئولية الفرد فردية لنفسه وجماعية لمجتمعه.

والعنصر الثاني في رسائلهم هي القوة النشطة المبدعة عند الانسان ،وهذا العنصر هو الذي يفرق بين النشاط العادي الذي يقتصر على مجرد اعادة المعارف والعمليات اليومية لتهذب وتنمي قدراته العقلية والمعرفية والكفاءة المهنية لتصب في مصلحة الناس الاخرين ومصلحتهم لتكمل الاجزاء الكلية للحضارة الانسانية.

والعنصر الثالث هو دور الفكر والتعقل في انجاز تكامل الوجود البشري،حين آولوا النشاط الجسماني والروحي للانسان ،ليثبتوا ان الهدف هو احراز فائدة اكبر والاستفادة من الصناعات المبتكرة وتطويرها لصالح الانسان والنفس البشرية. هذه العناصر الثلاثة التي بحثت فيها الرسائل أثبتت أهميتها في الدراسات الحضارية لابراز نظرية الكيان البشري واهمية الانسان في الوجود في السابق وفي الوقت الحاضر..

ومن يطلع على الافكار الشمولية لهذه الجمعية يدرك انها جمعية علمية عقلية فلسفية على جانب كبير من الرقي العقلي والعلمي ،ولو ان الظروف السياسية مكنت لها من النهوض والظهور لكان بامكانها تغيير الحالة العلمية التي كان عليه الناس في القرن الرابع الهجري، ولكان دورها لا يقل عن دور المعتزلة في الحركة العقلية، و لاصبح العرب والمسلمين في مقدمة الركب الحضاري المنشود. الله كم أنتجت يا عراق من عقول وانت لازلت في قائمة النسيان؟ وكم انتِ يا بصرة الفيحاء انتجتي من علماء وفلاسفة واليوم تغزوك فصائل الغربان. فهل نأمل ان نستعيد ما فقدناه؟
وقالت الجماعة ان الحاكم الذي لا يحقق الامان والأطمئنان والكفاية والعدل لمواطنيه فهو لا يستحق حكم الناس ،وان حًكمَهُم فهو غاصب فاجر لا يستحق الطاعة بل العصيان.

وهل يقبل قادة العراق اليوم ان المدرسة والجامعة تقف في الصف الاخير ؟ وهل يقبل ان المستشفى تصبح حضائر للحيوانات ،لكن اذا عطس احدهم فتراه في اليوم الثاني في لندن وباريس وبرلين كما نرى اليوم رئيس الجمهورية وهو يعالج لمدة ستة شهورفي برلين صرفت الدولة على علاجه ما يكفي لبنان عشرين مستشفى للمواطنين،لا ما هكذا يا حكام الظلم والجور على المواطنين ؟من حق الفصائل السياسية ان تتشرذم في حكم العراق من أجل مصالحها الخاصة ،لكن ليس من حقها شرعا وقانونا ان تستبد بالوطن ؟وهل ان قادتك الميامين اليوم ديدنتهم اللا وفاق ؟ فأذا كنت غير هذا، اذن لماذا هذا التبعثروالضياع في تاريخك اليوم ؟ وهذا التشتت في قياداتك السياسية والاجتماعية واستجداء العون والمشورة من الاخرين ،وتراهم متخاصمون لكنهم كلهم دون استثناء متفقون على امتصاص الوقت وبيع الوطن ونهب الاموال وتخلف كل المواطنين،بدليل اذا ما وصلت الحالة لتهديدهم شخصياً نرى المبادرات والمصافحات وتقبيل الخشوم تترى من الخائفين .

ان أهم ما في رسائل اخوان الصفاء هي الرسالة الاخيرة التي التزموا بها بالوفاء فيما بينهم وبين الشعب وماتوا عليها دون الاخلال بشروطها ،هكذا هم الرجال والا فلا؟. ويعود ذلك ان الجماعة لم تضع في حساباتها المال والجاه والسلطة،فعاشت متجردة من المصالح الذاتية مفضلة مصلحة العلم والانسان والوطن ولا غير.
فهل نحن على هداهم من السائرين ؟