اسطنبول ! هل بدأ خريف (الاسلاميين) ؟(1)

 

تتناقل وكالات الانباء العالمية و تتابع ساعة بساعة الاعتصامات و التظاهرات الحاشدة التي تشتبك بضراوة مع العنف القاسي لقوى الامن و الشرطة التركية، و التي تجتاح ابرز المدن التركية، من اسطنبول و ازمير الى قارص و بورصة . . بعد ان ضاق الكيل بالجماهير التركية المتعددة القوميات و الاديان و المذاهب، بسبب المعاناة المتواصلة و المتزايدة ، نتيجة لتزايد الفقر و البطالة رغم انتعاش الاقتصاد التركي المعتمد الى حد كبير على استثمار الموقع الجغرافي للبلاد . . 
و كنتيجة لتواصل العنف ضد الصحافة و الاعلام الحر، و الحروب ضد القوميات و الاديان الثانية في البلاد و في مقدمتها الكرد و الارمن و غير المسلمين، و بسبب سعي حكومة اردوغان الى اسلمة الدولة و المجتمع بشكل تدريجي ينحى منحى مستمر و متزايد منذ عام 2002 حين فاز حزب العدالة و التنمية الاسلامي بالحكم.
يحدث ذلك الآن في دولة تركيا الاسلامية ـ دين الاغلبية فيها ـ ، الدولة التي تأسست اثر الحرب العالمية الاولى كدولة حديثة دستورية علمانية، استجابة للتطورات الكبيرة الحاصلة في داخلها وقتذاك و للحركة الناشطة الداعية الى حكم الدستور و انهاء الحكم الفردي المتوارث لسلاطين آل عثمان و انهاء حكم الخلافة التي كان من ابرز نشطائها الصدر الاعظم ـ رئيس الوزراء ـ مدحت باشا الذي نحيّ بعدئذ . . في وقت كانت فيه اسطنبول العاصمة، قلب الحركة الدستورية المدنية. 
و اثر القيادة العسكرية للضابط مصطفى كمال اتاتورك، التي حققت حينها نجاحات عسكرية ضد الاحتلال الاوربي الغربي من اجل استقلال دولة تركيا الجديدة، و بسبب السعي الهائل للغرب لقطع الطريق على شعوب تركيا و قواها التحررية من الالتحاق بثورة اكتوبر الاشتراكية الروسية 1917 بداية، ثم قطع الطريق على اتاتورك ـ الذي اختير بعيدئذ كرئيس للدولة التركية ـ من الالتحاق باتحاد الجمهوريات السوفيتية الذي كان اتاتورك يضمن تأييد الغرب له بتهديده ايّاه بالعمل به ـ راجع مؤلفات كورونالس و مس بيل المتعلقة بتأسيس الدولة العراقية ـ . 
و منذ ذلك الحين، شكّل و يشكّل "ميدان تقسيم" ـ "ميدان الشهداء" شعبياً ـ (*) الذي ينتصب فيه نصب الاستقلال المقام عام 1928 و الذي يرمز لشهداء الحرية و الاستقلال، و " شارع الاستقلال" الشهير الذي يبدأ به، يوم كان الشريان الرئيسي للعاصمة اسطنبول في سنوات صراعات الاستقلال . . شكّلا الميدان الرئيسي للتظاهرات و الاعتصامات لإعلان المطالبات الجماهيرية في الحريات و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية و التآخي القومي و الديني، و كان و لايزال بملتقياته الشبابية و الطلابية المختلطة و مكتباته، دور الفن، السينما و المسرح و انواع الفنون التشكيلية فيه . . 
اضافة الى الفنادق و المراقص و محلات بيع ملابس المودة، مقاهيه و بوفياته الاكثر تطوراً مع انواع الامزجة الشرقية و الاوربية الغربية، التي يتلمسها المرء سواءً في موسيقى او اغنية جماعية او وجبة طعام، او اماكن تتهادى منها الحان خافتة في الليالي المتأخرة خلال الاسبوع، فيما يكتظ الشارع بالمارّة حتى لاترى الارض فيه في نهايات الاسبوع، و يقطع الترامواي التاريخي الجميل للمدينة شارع الاستقلال على طوله، موصلاً الى حواريه المتنوعة ليعود الى نقطة انطلاقه في ميدان تقسيم . .
و اضافة الى وجود مسجد و كنيسة فيه، يضم الشارع العديد من السفارات والقنصليات الغربية كالقنصلية الأميركية والفرنسية واليونانية والبريطانية، المعهد الثقافي الفرنسي، و " جامعة غالَطَة سراي " التي تدرّس باللغة الفرنسية و تخرج منها عدد بارز من رجال الأدب والفن والسياسة من أنصار التحديث و العلمانية في تركيا. 
و فيما كان الشارع نقطة الانطلاق لمشروع التحديث و التلاقي الحضاري العثماني ـ الاوروبي الذي بدأ في عهد السلطان عبد المجيد في منتصف القرن التاسع عشر ـ في حدود سنوات الـ 1850 ـ ، فإن المعايشة و التواجد المستمرين فيه لأبناء و بنات انواع القوميات التركية، المختلطة بقوميات و حضارات من بقاع متنوعة من العالم، التي تضمّ اعداداً كبيرةً متجددة و متواصلة التواجد لمجاميع السوّاح و اصحاب و نشطاء مشاريع ثقافية و سياسية يغلب عليها طابع ثقافي يدعو للمساواة و للتآخي الانساني، و لكون الميدان على صلة يومية و مباشرة باوروبا و العالم . . 
صار "ميدان تقسيم" مركزاً للتلاقي العالمي و محرّضاً و شاهداً اساسياً على مايدور في تركيا، و على دور الجماهير الشعبية و الصحافة الحرة، و المثقفين و المبدعين من فنانين و ادباء و غيرهم رجالاً و نساءً، في صياغة و تحقيق المطالب الشعبية، و صار كل نجاح يتكلل فيه او صدامات مع قوى الامن و الشرطة فيه، يلقى صداه السريع و يؤثر و يستنهض عموم البلاد و يدعو العالم للتضامن معه . . و على ذلك كان الميدان و لايزال تحت المراقبة المشددة للسلطات المتعاقبة، لأنه شكّل على امتداد تاريخ تركيا الحديث و لايزال، متنفسا لنضاﻻ-;-ت الشعب التركي بقومياته و اديانه في مواجهة الحكومات القمعية المتعاقبة. . 
و منذ شباط 1969 حين جرح فيه ماﻻ-;-يقل عن 150 مناضلا عمالياً و يسارياً و شيوعيا في هجوم مباغت لجماعات تركية يمينية فاشية على المتظاهرين، و الذي تكرر في يوم العمال العالمي في الأول من ايار 1977 حين سقط فيه 36 متظاهرا من العمال الديمقراطيين و الشيوعيين من مختلف القوميات و الاديان في تركيا مضرجين بدمائهم . .
تكرر المشهد بسقوط اعداد مضاعفة من المتظاهرين من الرجال و النساء شهداءً من اجل حرية الشعوب التركية برصاص قوى الامن التركي و (منظمة الذئاب الرمادية) الفاشية في احتفالات يوم المرأة العالمي و مظاهرات يوم العمال العالمي عام 1980 التي شارك فيها ماقارب المليون متظاهر و متظاهرة، تحشّدوا في شارع الاستقلال، ميدان تقسيم و "بارك غازي" المقابل له، و في الاحياء العمالية المحيطة . . في وقت وصلت فيه النشاطات و الفعاليات الشعبية اوجاً اخاف السلطات الحاكمة و ارعبها، فقام الجيش (حامي الدستور) وفق الاتفاقات مع السلطات المدنية بضمانة الناتو و الغرب . . قام الجيش وقتها بانقلاب عسكري دموي استلم السلطة فيه الجنرال كنعان ايفريم، الذي اعلن الاحكام العرفية و احكام الطوارئ، و زجّ به اعداداً هائلة من الناشطين نساءً و رجالاً في سجونه السيئة الصيت، و اغلقت الصحف التقدمية و اغتيل العديد من رجال الفكر و السياسة و الصحافة . . 
حتى صار " ميدان تقسيم " يمثل الرمز البارز لنضال الشعب التركي ضد الرأسمالية و اﻻ-;-ستغلال وضد الاضطهاد القومي و الديني و الفكري و منع الحريات السياسية . . و اخذ يلعب بمشاركة القوى التحررية و الديمقراطية و اليسارية و الليبرالية ادواراً كبيرة في انتزاع العديد من الحقوق و المطالب الشعبية على مرّ السنين و الاحداث اللاحقة . . 
وفي الأول من ايار لهذا العام منعت حكومة اردوغان . . الجماهير العمالية والنقابات من التظاهر في " ميدان تقسيم" وفق خطة اشمل تهدف هذه المرة الى تصفية الميدان نهائياً، عبر بناء منشآت تجارية مكانه و تحديداً في "بارك غازي" في محاولة ﻻ-;-زالته من خريطة اسطنبول، وفق وكالات انباء تركية و عالمية محايدة متنوعة . . الاّ ان ذلك لم يفت على يقظة القوى التقدمية و الثورية التركية على اختلافها بتقدير الكثير من المحللين، فوقفت هي وجماهير الشعب التركي برجاله و نسائه، بشبابه و طلابه و عماله من كل القوميات و التكوينات لايقاف هذا الهجوم الجديد على الديمقراطية و التمدن. فمنذ 26 ايار المنصرم والجماهير تتظاهر ضد هذا المشروع، لتتطور الامور بسرعة بعد أن تدخلت قوى القمع بأمر من حكومة اردوغان و حزب العدالة و التنمية الاسلامي و بشكل وحشي في انتهاك حق المتظاهرين، مما دفع بمئات الآلاف من اﻻتراك الى الشوارع.