لا أتبرّأ من الطائفتين، فأنا إبنهما معا

 

يقف العراقيون هذه الأيام موقفا مؤلما ومحيّرا بسبب تفاقم الخلاف السنّي الشيعي بل تفاقم جميع ما يؤسس إلى نشوب نزاعات إثنيّة مختلفة وقد بلغ الأمر ببعض المثقفين أن يُعلنوا براءتهم من الطائفتين وأنهم لا شأن لهم في هذه النزاعات التي لا تصبّ في مصلحة البلاد والعباد ، ولا بدّ أنكم إطّلعتم على ماجاء بمثل هذا الخطاب الذي ولا شك يكشف عن مأساة كبيرة تهدّد الشعب العراقي برمّته وتهدّد الطوائف والمذاهب والمكونات الإثنيّة جميعا، فضلا عمّا يمكن أن يُخلّفه من حالة إكتئاب شديدة لدى أبناء شعبنا وامام تضحياتهم التي جرت بدمائهم جداول وأنهار..
فتأمّلت الأمر ونظرتُ في نفسي وقلتُ ومع من أنتِ ؟ وما موقفك يا هذا في كل ما يجري وأنا كثيرا ما أردّد أن المثقف يجب أن يكون له موقف مما يجري  حوله من أحداث؟ 
هل اضع توقيعي معهم؟ وأتبرّأ من السنّة والشيعة معا؟
أم أقف غير مكترث بما يجري وبالدماء البريئة وبالشرائح التي إشتدّ عليها الفقر والعوز ؟والحرمان؟
لم يستغرق الأمر معي سوى لحظات ولكنها كانت لحظات ساخنة جدا ومؤثّرة .
لا أستطيع أن أتجرّد منهما معا فأنا سنّي وأنا شيعيٌّ بذات الوقت نشأتُ في ظل هكذا آراء وعقائد وكانت ومازالت راسخة في أعماقي ورغم أن ثقافتي الذاتية يساريّة فأنا أيضا نشأت في بيئة معظم عناصرها من الفقراء والمحرومين والمستغلّين ( بالفتح)، ولهذا لا أستطيع أن أغفل أو أتردّد في تأييد مطالب الفقراء والعمال والفلاحين ومن نشأوا على الحرمان والمثابرة والجدّ والعمل ( ضحايا الجوع باضطرار)، ومعلوم أن الفكر اليساري عموما غير   منشغل بالأديان والطوائف ولا يعتبر مثل هذه الصراعات في محور النضال من أجل القضاء على الإستغلال وتقدّم المجتمع وتحسين أحوال الطبقات  المستغلّة ومع هذا فقد طرحت تساؤلات كثيرة مع نفسي في إستشراف موقفها من كلّ هذا.
أنا سنّي وأنا شيعي أيضا لم أشعر ولا يوم واحد في حياتي بأن وجودي في الحياة إلاّ كواسطة العقد ومحبّتي للجميع لا تنفكّ تشغلني منذ نعومة أظفاري وكلما كبرتُ قليلا وجدتُ محبّتي تترسّخ وتتعمّق وكان معظم أصدقائي من الشيعة وكنت أحضر كثيرا من المناسبات الدينية للإطلاع والإستماع للمواعظ والعبر الفكريّة والأدبيّة والتربويّة وكانت دارنا محجّةً لكل المذاهب السنيّة منها والشيعيّة .
محبّة الأئمة في قلبي لم تتزعزع يوما واحدا أبداوكل املي أن يحشرني ربّي مع الأئمة الأطهار وسيّدنا الحسين( ع) الشهيد ومن أحبّهم ومن والاهم وهكذا  عمل أهلنا على تنشئتنا بشكل يزرع الإحترام لكل الناس وكل الأديان وكل الطوائف والمذاهب والقوميات .
ولا انكر إعجابي بالقادة الأوائل من الذين ذبّوا عن الإسلام والمسلمين وحفظوا لنا كرامتنا التي لم تتمرّغ بالتراب أبدا
في مبتدأ الخمسينيات وكانت الحرب العربيّة الإسرائيلية قد إنتهت توّا بخسارة العرب وحينذاك فقد عمد نفرٌ قليل إلى إساءة معاملة اليهود كنتيجة طبيعيّة للخسارة وبلغت الجرأة ببعضهم أن يُسيؤوا لبعض رجال الدين اليهود أيضا فجمعنا والدي رحمه الله وكنّا صغارا وقال بحزم بالغ وكان حديّا في كلامه وأخبرنا أن رجال الدين والعلماء ومن أي دين أو مذهب لا يجب علينا أن نمسّهم بسوء فهم أهل الإيمان وأن الله قد أوصانا بهم خيرا ولا فرق فيهم بين من هو يهودي أو مسلم أو مسيحي ولا نفرّق بين من هو شيعي ولا سنّي وأن ما يفعله بعضهم إنما هو حرام في حرام 
وكنّا إذا رأينا رجل دين من أي دين كان أو مذهب أو طائفة سواءً كان يهوديّا أم مسيحيّا نتنحّى له ونفسح له الطريق ونُطرق إحتراما وما زلنا على هذه التربية لا نسئ لرجل دين مهما قال أو فعل رغم أن لنا مواقف سياسية أو إجتماعيّة كثيرة ومختلفة.
لست من الذين يرون تعارضا للماركسيّة باعتبارها مذهبا دنيويا وإصلاحيا يكشف عن تناقضات في المجتمعات الحديثة مع الإسلام إذ أجد أن الإسلام يُحرّم الربا وأن الإستحواذ على فائض قيمة العمل لا أراه إلاّ شكلا مستترا من الربا والحديث يطول والمأثور عن الأئمة الأطهار كثير أيضا لا يسعه المقال ولو رددنا الأمر إلى القرآن وهو ما امرنا الله به فإنه يقول: بسم الله الرحمن الرحيم. والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم. صدق الله العظيم. وكثير مما لا مجال لحصره
أنا نشأت على حب الفقير والفقراء والمستغلين وعلى رفض الظلم والإستغلال وكانت وما تزال ثقافتي يساريّة لهذه الأسباب ولكنني بطبيعة الحال أرفض التخلّف والتأخّر وقبول الركون إلى الموروث لأننا إعتدنا عليه بل يجب أن نسهم إلى جانب غيرنا من الأمم في بناء الحضارة ويجب أن نثبت أننا نستحق الحياة التي هي منّةٌ من الله وفضل لا يُعادله شئ والدنيا بالأساس دار عمل وسعي .
ولكنني ايضا أشعر أنني إبن الطائفتين معا فأنا أرى أن المذاهب السنيّة تمثّل مذهب الرواة والنقل القديم وأن المذاهب الشيعيّة تمثّل مذهب الإجتهاد والعقل وأن بينهما علاقة تبادليّة جدليّة يُغذّي أحد أطرافها طرفه الآخر ولا غنى لأحدهما عن الآخر ابداً.
لو أننا علمنا أن خلافا دبّ في أسرةٍ واحدة وبالتحديد بدأ ما بين رجل وزوجه وانقسم أفراد الأسرة بين مؤيّد لهذا ومؤيّدٍ لذاك فمع من نقف؟ مع الرجل ؟ أم مع المرأة بغض النظر عن تفاصيل الخلاف؟
لا يمكن هذا إذ لا بدّ من دراسة التفاصيل ثم النظر إلى من كان على حق منهما وبعد ذلك لا تنتهي مهمتنا عند ذلك الحدّ فقط بل أهم ما في الأمر أن نعيد اللحمة للأسرة بين الرجل والمرأة إذ ما فائدة أن يظهر الحق إلى أحد الجانبين وينتهي الأمر بالفراق أو التفريق ؟ 
الطائفتان كما يبدو لي أمرهما أسرة واحدة ولن يُجدينا نفعا أن يظهر الحق مع أحدها بل يجب مع إعطاء الحق أن نصون الأحاسيس والمشاعر بما يحفظ الوحدة الحقيقية التي لا نفع من إنفصامها لأحد
إن الإستقطاب السياسي لا يخدم البلاد إذ يجب أن تبقى هناك فئة واسعة من المستقلّين الذين سيحتاجهم البلد في فترات لاحقة كثيرة.
نعم أنا مسلم
نعم أنا شيعي
نعم أنا سنّي
نعم أنا عراقي
نعم أنا عربي
نعم أنا من كل المكونات القوميّة والمذهبيّة والدينيّة 
مع الكورد
مع التركمان
مع المسيحيين
مع الصابئة المندائيين
مع الأيزيديين
مع المستقلّين
مع الشيوعيين
مع الملكيين
مع جميع أبناء شعبي وسأبقى مع الجميع مادام أي موقف أتخذه يزيد في عمق التصدّع في البلاد ويزيد في إحتمالات تمزّق الوطن شذر مذر

وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي
وهفا بالفؤاد في سلسبيل ظمأ للسواد من (عين شمس)
شهد الله لم يغب عن جفوني شخصه ساعة ولم يخل حسي
أيها الأخوة الصيني يُحبّ الصين والهندي يُحبّ الهند والبريطاني يُحبّ بريطانيا والفرنسي كذلك والأمريكي وكل الناس يفعلون هذا دائما فلماذا يُحرّم علينا حبّ بلادنا؟
إنني أرفض التعصّب بكل أشكاله فلكلٍّ حبيبته ولا ألوم أحدا لأنه يعشق حبيبته كما يفعل الفرنسي عندما يعشق فرنسا ولا أتوقّع أن يرفض الفرنسي أن أحبّ بلادي كما يفعل الفرنسيون وكل الناس أينما ذهبنا
أنا لا أتبرّأ من أي طائفة ولا أي مكون قومي أو إثني فأنا منهم جميعا وهم جميعا سرّ وجودي وحياتي ولا أنسَ لهم نضالهم الطويل والمرير في سبيل تحقيق حلم جميل ما زلنا متمسّكين به لعالم نعيش فيه متحابّين، وبعد هذا سيسهل حلّ كل شئ.
واخطر ما في الأمر أن يتنازعنا هذا وذاك ضدّ البعض الآخر في توليد إستقطاب شديد، ولكن أيها الأخوة أقول يحقّ لأي إنسان أن يدعو لنفسه وأفكاره ولكن لا يحقّ له أن يُحرّض ضد الآخر مهما كان فلا يُزكّي الأنفس إلاّ الله .
عاش العراق!