بصمات الفوضى وإرث الاحتلال

 

ما تركه الاحتلال حتى بعد انسحاب القوات الأمريكية من العراق في أواخر العام ،2011 لايزال قائماً، يذكّر العراقيين كل يوم بحجم الكارثة التي أحدثها، فبصماته ظاهرة في كل مكان، شاخصة للعيان وماثلة في الأرواح والنفوس والضمائر . ومع انفجار الأوضاع الأمنية وتدهور العملية السياسية المتكرّرة، يستعيد العراقيون في كل مرّة ما قام به الاحتلال من انتهاك لأبسط حقوقهم وتدمير لدولتهم وتمزيق لنسيجهم الاجتماعي، فضلاً عمّا آلت إليه أوضاعهم، بسبب تكريس المحاصصة الطائفية- الإثنية واستشراء الفساد المالي والإداري وتفشّي الإرهاب والعنف على نحو مريع، فضلاً عن استمرار ضعف هيبة الدولة، بسبب حلّ الجيش والعديد من مؤسساتها، تلك الخطوة التي اتّخذها الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر، ولايزال يدفع الشعب العراقي ثمنها باهظاً، وقد أقرّ الاحتلال الأمريكي لاحقاً بخطئه الفادح .

وإذا كان مثل هذا الإحساس شعبياً لدى المواطن العادي، فإن المسؤولية التي تقع على كاهل المجتمع الأكاديمي أكبر وأعمق من حيث توثيق ما حصل وبحث ودراسة الأثر الذي نجم عن الاحتلال للتاريخ من جهة، ولإيجاد حلول ومعالجات بديلة من جهة أخرى في جميع الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقانونية والبيئية والتعليمية والصحية والنفسية وغيرها .

بعد عشر سنوات من احتلال العراق التأم في بغداد مؤتمر لمركز أكاديمي مرموق، ضم نخبة متميّزة من الخبراء والباحثين العراقيين، وبمشاركة عربية (محدودة)، لإطلاق تقرير بعنوان "بصمات الفوضى وإرث الاحتلال الأمريكي في العراق" . وقد صدر التقرير عن مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية الذي يترأسه البروفيسور عبد علي المعموري المختص بالاقتصاد السياسي، والذي لديه مساهمات بحثية مشهود لها .

وشارك في إعداد الأبحاث والدراسات نحو 25 أستاذاً ومختصاً من المجتمع الأكاديمي العراقي، وتوزّعت الدراسات التي ضمّها مؤلف جماعي ذو قيمة علمية 14 حقلاً، وقام المركز بإطلاقها في احتفالية مهيبة في بغداد حضرها عدد من المسؤولين والبرلمانيين، إضافة إلى النخبة الأكاديمية والثقافية والإعلامية، شملت الاحتلال الأمريكي وأزمة بناء الدولة، وقضايا الأمن والاستقرار، وإشكاليات الدستور والقوانين، ومسألة الهوية الوطنية، وموضوعات الفساد المالي والإداري، وأوضاع الإعلام وتدمير الإرث الحضاري للعراق، والتعامل مع البيئة والوضع الصحي والتكلفة الاجتماعية وانتهاكات حقوق الإنسان، والاقتصاد العراقي ومشكلات الزراعة ومؤشّرات التنمية البشرية .

لعلّ هذا المؤلف الأكاديمي الجماعي هو محاولة للإجابة عن سؤال كبير: إلى أين نحن سائرون؟ وهو السؤال الذي مازال يردّده، السياسيون والحقوقيون والبرلمانيون والأكاديميون، والمثقفون ومن عامة الناس، لاسيّما في ظل واقع مرير يشهد احتجاجات وأعمال عنف واحتراباً سببه نظام المحاصصة والتقاسم المذهبي والإثني الوظيفي، وهو التركة الثقيلة التي خلّفها الاحتلال الأمريكي للعراق .

وبهذه المحاولة الأكاديمية الجماعية أراد مركز حمورابي إبقاء الذاكرة حيّة لما فعله الاحتلال من جهة، ومن جهة ثانية تقديم صورة نقيضة له من جانب المجتمع الأكاديمي، بالدعوة إلى تجاوز الانخراط بما هو قائم من اصطفافات ما قبل الدولة، والعمل على بناء مشروع عابر للطوائفية والتعصّب بجميع أشكاله القومي والديني والمذهبي والمناطقي، وهو ما يسعى إليه المركز في دعوته إلى بناء دولة المواطنة والحق والمساواة التي تتطلب من جميع الفرقاء قدراً من التوافق واحترام سيادة القانون واستقلال القضاء، لإعلاء شأن الإنسان وقيمه دون كراهية أو أحقاد أو ثأر أو انتقام .

يقدّم التقرير منتجاً بحثياً متميّزاً يدلّل على الكفاءات العراقية التي كانت واحدة من استهدافات المحتل، فهو مؤلف من 342 صفحة من القطع الكبير، ومزوّد بالصور والوثائق والشهادات، حيث قامت النهضة العراقية المعاصرة بعقول وأدمغة وسواعد أبناء العراق، ولذلك كان العلماء والأكاديميون أول من استهدفهم الاحتلال الأمريكي، وقد ذهب ضحية أعمال الغدر أكثر من 450 عالماً وأكاديمياً، إضافة إلى هجرة عشرات الآلاف منهم إلى خارج العراق، بما يعدّ خسارة كبرى ضاعفت من خسائر العراقيين ما بعد الاحتلال .

ويكشف التقرير عن حجم الخداع والزيف وخطورة الذرائعية الأمريكية التي قامت على المغالطات وادّعاء تمدين العراق والعراقيين بعد تخليصهم من النظام الديكتاتوري السابق، فضلاً عن نشر النموذج الديمقراطي المنشود والرفاه الموعود، وإذا بالعراق يتحوّل إلى بؤرة للإرهاب، وخصوصاً لتنظيمات القاعدة، فضلاً عن الانقسام المجتمعي، وهو ما خططت له القوى المحتلّة بهدف "تأمين" أمن "إسرائيل" .

وقد كانت تكلفة احتلال العراق هي الأكثر من جميع الاحتلالات في العالم، على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والإنساني والبيئي مروراً بمكوّنات الحياة المختلفة، ولولا الجهد العراقي المقاوم بجميع الوسائل، بما فيها المدنية والحضارية والأكاديمية، لما تمكّن من تحقيق الانسحاب الأمريكي، واضطرار واشنطن إلى إعلان رغبتها التي عبّر عنها الرئيس أوباما بالانسحاب من العراق، لا سيّما بعد الخسائر المادية التي تقدّر بأكثر من تريليوني دولار أمريكي، إضافة إلى الخسائر البشرية، حيث سقط من جنودها حسب الإحصاءات الرسمية للبنتاغون أكثر من 4800 عسكري أمريكي، إضافة إلى الجرحى والمعوّقين والمرضى الذين تجاوز عددهم نحو 26 ألفاً، من دون احتساب المتعاقدين من المدنيين وأفراد الشركات الأمنية، إلى الخسائر المعنوية التي ألحقت ضرراً بسمعة الولايات المتحدة وأضعفت من صدقيتها، سواء بشأن مشاريع الإصلاح، أو بخصوص مكافحة الإرهاب الدولي، وقد استنفر الرأي العام الأمريكي والغربي بشكل عام للمطالبة بالانسحاب من العراق مع تصاعد حملة الإدانة لعدم شرعية الحرب، ولعلّ هذه الأسباب جميعها، إضافة إلى الأزمة الاقتصادية والمالية التي طالت الولايات المتحدة وأدّت إلى انهيار مصارف كبرى وشركات عملاقة، هي التي كانت وراء الانسحاب .

السِفْرُ الذي تم الاحتفال به في بغداد وكتبت عنه الصحافة وعرضت شاشات التلفاز الكثير من مفرداته، بحاجة إلى عروض عربية ومناسبات إقليمية ودولية لكي تطّلع المجتمعات الأكاديمية المماثلة على هذا الجهد العراقي الميداني المعرفي والوطني والموضوعي، وتتبادل معها الرؤية والتحليل والمعالجة، بما يساعد على عمل عربي أكاديمي مشترك، لقضايا ملتهبة وساخنة، يمكن أن تؤثّر في تطور دول المنطقة، بحالتيها السلبية والإيجابية في الآن ذاته . وصدر عن المؤتمر الاحتفالي الذي التأم في قاعة فندق فلسطين في بغداد توصيات بتعميم نموذج التقرير والفيلم إلى لغات عدة للاطلاع الأوسع عليه .

ومن نتائج التقرير أن الانسحاب الأمريكي عسكرياً لا يعني انتهاء مفعوله كلياً، فلايزال تأثيره مستمراً وإن كان ناعماً من خلال التجاذب والشحن الطائفي واستمرار ظاهرة العنف والإرهاب وضعف هيبة الدولة وفساد الكثير من مؤسساتها، فضلاً عن التداخلات الإقليمية والدولية في شؤونها .

ومن دون استعادة مكانة العراق ودوره وإنعاش أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية وتحقيق المواطنة الكاملة والمساواة التامة، فإن إرث الاحتلال يبقى في العراق وبصمات الفوضى ستستمر، وهو ما سيتفرّغ له مركز حمورابي في تقريره المقبل، لبحث مشكلات الثقافة ومسألة التنوّع الثقافي الديني والقومي والاجتماعي والمرأة والسياسة الخارجية، لاسيما مع دول الجوار والعالم .

إن مركزاً أكاديمياً حين يحتفل بمرور 10 سنوات على الاحتلال، إنما يريد أن ينشر رسالة، بتأكيد وحدة المجتمع العراقي، الوطنية، وبسيادته واستقلاله، ورغبة شعبية في العيش المشترك وفي تشخيص الظواهر السلبية لمعالجتها ومواجهة التحديات الخارجية والداخلية، عبر احترام حقوق الإنسان والمواطنة السليمة .