المستقبل هو للإسلام الوسطيّ المعتدل لا للفكر المتطرّف.. لقاء مع السيد عصام حميدان

 

 

 

 

 

 

أجرى موقع بيّنات مقابلةً مع السيّد عصام احميدان الحسني، باحث مغربي في الفقه الإسلاميّ والدّراسات القانونيّة، وذلك أثناء زيارته إلى بيروت. ومن العناوين الّتي تناولتها المقابلة: واقع الإسلام والمسلمين في المغرب، علاقة المسلمين مع التيّارات الأخرى، العمل الدّعويّ في المغرب، الهويّة الدينيّة، الانفتاح من قبل المثقّفين في المغرب على فكر سماحة المرجع السيّد فضل الله(رض)، وغيرها من العناوين، وهذا نصّ المقابلة... 

واقع المسلمين في المغرب

ـ كيف تنظرون اليوم إلى واقع الإسلام والمسلمين في المغرب، وخصوصاً ونحن نعلم المكانة التّاريخية والدّور الأساسي في نشر الدّين الإسلامي في المغرب العربيّ عموماً؟

ـ مما لاشك فيه أنّ الإسلام هو دين الدّولة المغربيّة، بحسب الدّستور وعقيدة الأغلبيّة السّاحقة من المغاربة، كما أنّ الدّين الإسلاميّ شكّل، ولا يزال، مرجعيّة أساسيّة للاجتماع السياسي المغربي.

 

إنّ أوّل تجسيد سياسي إسلامي مغربي مستقلّ عن أنظمة الخلافة المشرقية ـ الدولة العباسيّة مثلاً ـ مثّلته الدّولة الإدريسية بوصفها أوّّل دولة إسلامية مغربية مستقلة، وهي الدولة التي أرسى دعائمها الشريف الحسني  الثائر إدريس بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي المرتضى وفاطمة الزهراء(عليهم سلام الله)، ما يعني أنّ المغرب شكّل الحاضن التاريخي للمضطهدين من عترة رسول الله، بل إنّ المغاربة التفوا حول تلك القيادة الرسالية طواعية، ومحبة لرسول الله وعترته، وتطلعاً إلى عدل الإسلام، بعيداً عن المنطق الشوفيني العروبي الذي تغطت به الدولة الأمويّة.

 

لقد شكّلت التجربة السياسية الإسلامية للمغرب رافداً هاماً في الدعوة إلى الإسلام في كلّ القارة الأفريقية، بفضل مجهودات الأشراف والزوايا الصوفية، غير أن دخول التيار السلفي الوهابي على الخط في العقود الأخيرة، أثر بشكل كبير في حجم الزّخم الدعوي، وقلّص من إشعاع الإسلام المغربي الموسوم بالوسطية والاعتدال.

 

حذّرنا في أكثر من مقال من مخاطر الاختراق السلفي للمؤسسة الدينية الرسمية في المغرب...

 

من هذا المنطلق ، حذّرنا في أكثر من مقال من مخاطر الاختراق السلفي للمؤسسة الدينية الرسمية، وهو ما دفع ببعض الأطراف المتضررة من هذا الاختراق، إلى أن رفعت الصّوت عالياً، مطالبة بحيادية المؤسسة الدينية الرسمية عن حركة الصراع الإيديولوجي والسياسي. وقد تجلّى ذلك في تحذيراتنا لبعض أقطاب القوى العلمانيّة، وللحركة الثقافية الأمازيغيّة أيضاً. ولعلّ في رفع 137 مسجداً في الأطلس المتوسّط والصّغير أعلاماً أمازيغية، وتشكّل حركة الأئمة الأمازيغ لمواجهة الفكر السلفي الوهابي واختراقه للواقع الديني الرسمي، مؤشّراً إضافيّاً على صدقيّة ما حذّرنا منه من قبل.

 

انفتاح في العلاقات

 

ـ ما هو تقييمكم للعلاقات الثقافيّة والفكريَّة بين المسلمين والتيّارات الأخرى في المغرب؟

 

ـ إنّني لا أعتقد أنّ العلاقة هي بين المسلمين وغيرهم من التيّارات الأخرى، لأنّ الشّعب المغربي في أعمّه الأغلب هو شعب مسلم، وبالتّالي، فالعلاقة إنما هي بين اتجاهات دينيّة محافظة وأخرى حداثيّة علمانيّة، وهي علاقة تتّسم بالاختلاف في طبيعة التصوّرات والمناهج، والبدائل المجتمعيّة المقترحة من هذا التيّار أو ذاك.

إنّنا من داخل التّجربة المغربيّة، نجد أنّ العلاقة بين التيّار المحافظ والتيّار العلماني، لم تتّسم بالتوتّر الشّديد كما هو موجود في بعض الدّول، كما وُجِدَ بعض الإسلاميّين ممن يؤمنون بضرورة التّقارب مع القوى العلمانيّة، وفي الوقت ذاته، وجدنا نخباً علمانيّة تؤمن بضرورة قيام أرضيّة مشتركة بين الإسلاميّين والعلمانيّين، تماماً كالمشروع الّذي نادى به المفكّر المغربي الرّاحل الدّكتور محمد عابد الجابري، وأطلق عليه اسم "الكتلة التاريخيّة" بين الإسلاميّين والعلمانيّين.

على المستوى العمليّ، سجّلنا تقدّماً نوعيّاً في طبيعة العلاقات الثقافيّة بين الإسلاميّين والعلمانيّين، من خلال المعارك النّضاليّة المشتركة، ولا سيَّما تلك المتعلّقة بالدّفاع عن القضيّة الفلسطينيّة، أو بالنّضال المطلبي الوطني. كما أنّ الحكومة الحاليّة في المغرب ـ بالرّغم من تحفظاتنا عن أدائها ـ مثّلت حكومة يشارك فيها إسلاميّون وعلمانيّون على مستوى تدبير حكم البلاد، وهي كلّها مؤشّرات إيجابيّة ينبغي استثمارها.

 

منطلقات العمل الدّعويّ

 

ـ بالنّسبة إلى عملكم الدّعويّ في المغرب، هل لنا بإطلالة على تجربتكم اليوم ومدى تأثيرها؟

ـ إنّنا نتحرّك اليوم من خلال عنوانٍ ثقافيٍّ محدّد، ألا وهو "الخطّ الرّساليّ في المغرب"، وهو بمثابة نواةٍ لتيّار ثقافيّ إسلاميّ مغربيّ، يؤمن بالحوار والتّعايش مع الآخر، وقد لخّص أهدافه في ثلاثة مستويات: التّنوير ـ التّغيير ـ التّحرير؛ فعلى مستوى التّنوير، رفعنا شعار "مواجهة التخلّف والتطرّف"، وعلى مستوى التّغيير، رفعنا شعار "مواجهة الفساد والاستبداد"، أمّا على مستوى التّحرير، فرفعنا شعار "استكمال وحدتنا التّرابيّة وتعزيز استقلاليّة القرار الوطنيّ".

هذا على المستوى النّظريّ، أمّا على المستوى العمليّ، فقد حدّدنا خطة واقعيّة متدرّجة لبلوغ تلك الأهداف نلخّصها بشعار "الحركة الثقافيّة مدخل لبناء الحركة السياسيّة، والحركة السياسيّة أداة التّغيير والتّحرير". ثم حدّدنا أنّ المرحلة الرّاهنة من عمر "الخطّ الرّساليّ في المغرب"، هي مرحلة ثقافيّة بامتياز، نعمل من خلالها على تأطير النخبة الرّسالية وبناء الجمهور، على قاعدة "بناء الذّات من خلال بناء الجماهير، وبناء الجماهير من خلال بناء الذّات"، وقد انطلقنا في عمليّة الولوج إلى الإسلام الشعبي بالأدوات التقليديّة لتحريكه من الدّاخل ـ الأدعية والزّيارات ـ كما أنّنا كنّا حاضرين بمواقفنا في كلّ محطّة ومنعطف وطنيّ، وإزاء كلّ قضيّة تكون مثار جدل فكريّ، كما فتحنا قنوات الحوار والتّواصل مع العديد من مكوّنات السّاحة الوطنيّة، من إسلاميّين وعلمانيّين، وأدلينا بوجهة نظرنا في أكثر من ندوة وطنيّة ودوليّة، وكسبنا العديد من الأصدقاء داخل المغرب وخارجه، إضافةً إلى أنّنا فتحنا قنوات التّواصل مع الجالية المغربيّة في الخارج، ونعتزم الدّخول في مبادرات ثقافيّة أخرى سنعلن عنها لاحقاً بإذن الله.        إنّ ما أثير في وسائل الإعلام عن موضوع "الردّة"، لم يكن مرتبطاً بارتداد أفراد، بل كان عبارة عن موقف فقهيّ عبّر عنه المجلس الأعلى للإفتاء...

 

حقيقة الارتداد في المغرب!

ـ نسمع في بعض الأحيان عبر وسائل الإعلام عن ارتداد بعض النّاس في دول المغرب العربي عن الدّين. ما صحّة ذلك؟ وإن كان هناك من حالات، ما مردّها؟

ـ إنّ ما أثير في وسائل الإعلام عن موضوع "الردّة"، لم يكن مرتبطاً بارتداد أفراد، بل كان عبارة عن موقف فقهيّ عبّر عنه المجلس الأعلى للإفتاء، اعتبر فيه أنّ عقوبة المرتدّ هي القتل، وهو ما أثار المنظّمات الحقوقيّة والتيّار العلماني عموماً.

إنّنا نعرف أنّ الرّأي الغالب لدى السنّة والشّيعة، أنّ المرتدّ عقوبته القتل، لكنّنا على مستوى الخطّ الرّساليّ في المغرب، طالبنا بضرورة إعادة النّظر في هذا الحكم، والّذي اعتبرناه اجتهاداً قابلاً للنّقد والتّقويم، لأنَّ القرآن الكريم خلا من كلّ ذكر لعقوبة القتل للمرتدّ، كما أنّه، وعلى مستوى مدرسة أهل السنّة والجماعة، انحصر الدّليل في رواية واحدة بصحيح البخاري: "من بدّل دينه فاقتلوه"، وهو حديث مرويّ عن ابن عبّاس من طريق واحد، وهو عكرمة الخارجيّ الّذي جرحه كبار الصّحابة والتّابعين، وأيضاً تابعي التّابعين، كالإمام مالك بن أنس الّذي لم يقبل بمرويّات عكرمة. فضلاً عن حجم الاختلاف الحاصل في تقدير العقوبة، بين قائل بالقتل بالسّيف، وآخر بالإلقاء من شاهق، وآخر بالوطء بالأقدام حتّى الموت، وآخر باستثناء النّساء والأطفال، ما يوحي بأنَّ الأمر قد يكون دار مدار الأحكام الولائيّة لا الشّرعيّة، فاختلط الأمر لاحقاً، وشرع الفقهاء في استحداث تقسيمات: الكافر الملّي والكافر الفطري، لأجل تخصيص مبدأ قرآنيّ أصيل، ألا وهو مبدأ "لا إكراه في الدين" .

عموماً ، إنّنا نجد أنّ الارتداد عن الدين الإسلامي لم يتحوّل إلى ظاهرة بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى، وأنّ النّقاش انصبّ أساساً حوله من الزّاوية الفكريّة والنظريّة، وشكّل مظهراً من مظاهر الجدل الفكري بين الإسلاميّين والعلمانيّين.

إنّنا نجد أنّ الارتداد عن الدين الإسلامي لم يتحوّل إلى ظاهرة بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى...

 

هويّة إسلاميّة عصريّة

 

ـ هل الهويّة الدينيّة اليوم في دول المغرب ضائعة ومشوّشة، إذا أخذنا بالاعتبار طغيان القيم والاتجاهات العلمانيّة؟

ـ أعتقد أنّ الهويّة الدّينيّة للمجتمع المغربي هي هويّة إسلاميّة عصريّة، يسعى كلّ تيار من التيارات إلى تغليب سمة من سماتها على الأخرى، فالتيار الإسلامي يريد تغليب البعد الديني على عصرنة تلك الهويّة، بينما يسعى الاتجاه العلماني إلى المزيد من تحديث تلك الهويّة، بما قد يوحي للإسلاميّين بأنّ الحداثة تشكّل خطراً على التديّن. وإنّنا هنا ، نعتبر هذا الاختلاف طبيعيّاً، والتّنافس بين التيّارين مما تقتضيه طبيعة الحياة وحركة الأفكار وتطوّرها، فلا القيم العلمانيّة طاغية على المجتمع المغربي، ولا القيم التقليديّة هي الأساس، لأنّ مركز الثّقل في الهويّة الدّينيّة المغربيّة هو "الإسلام المعاصر"، بينما هناك أطراف ضعيفو التّأثير، وإن كانوا يتطرّفون نحو "التّقليد" أو "الحداثة".

 

ترشيد الحركة الإسلاميّة

ـ ما المطلوب لإعادة بناء المجتمع وتوجيهه نحو الإسلام وأصالة مفاهيمه؟ وهل هناك من يحاول القيام بهذا الدّور؟

ـ المطلوب التحرّك على جبهتي "الإسلام الحركيّ" و"الإسلام الشعبيّ"، فعلى مستوى "الإسلام الحركي"، يجب ترشيد الحركة الإسلاميّة المغربيّة وتثبيت مواقعها عند حالات الاهتزاز، وإبعادها عن المنطق السّلفي للدّين، ليكون الدّين في قلب الحياة وليس على هامشها، وإخراجها من موقع الموظّف لفائدة الغير، لتكون حركة مستقلّة بذاتها وفاعلة في محيطها. وعلى مستوى آخر، يجب النّفاذ إلى عمق الإسلام الشّعبيّ، لتحريك مفاهيم الإسلام الموجودة في الأدعية والزّيارات والمناسبات، لنحوّل الجمهور من عبادة العادة إلى رساليّة العبادة.

وإنّني أعتقد أنّ هناك عدداً من الدّعاة والنخب الإسلاميّة في المغرب تشاركنا هذا التصوّر، وهي متوزّعة على مواقع الإسلام الحركيّ والإسلام الشعبيّ، إنما قد يكون عدم انتظام تلك الطّاقات الرساليّة في إطار تكتّل أو مؤسّسة، هدراً لكثير من الجهد والوقت والإمكانات المادّية والبشريّة.

 

العلاقة مع سماحة السيّد(رض)

ـ ما مدى انفتاح المثقّفين وغيرهم في المغرب على شخصيّة سماحة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض)، وتجربته الرّائدة في الفكر الإسلاميّ والاجتهاديّ عموماً؟

ـ لقد تربّى شباب الحركة الإسلاميّة المغربيّة، ولا سيّما أبناء الحركة الطلابيّة، على الأدبيّات الرساليّة الّتي كان يطلقها السيّد فضل الله(رض) في أكثر من كتاب ومحاضرة.. وقد تأثّرت العديد من التّجارب الحركيّة بأفكاره، وهو ما لا ينكره أحد من قيادات الحركة الإسلاميّة في المغرب، بل إنّ بعض رموز التيّار السلفيّ في المغرب، أكّدوا لي إعجابهم بالتجربة الفكريّة والحركيّة لسماحة السيّد فضل الله(رض)، واعتبروها تجربة رائدة في الوسط الإسلاميّ.

يجب النّفاذ إلى عمق الإسلام الشّعبيّ، لتحريك مفاهيم الإسلام الموجودة في الأدعية والزّيارات والمناسبات، لنحوّل الجمهور من عبادة العادة إلى رساليّة العبادة...

أيضاً، كان سماحة السيّد فضل الله(رض) حاضراً مع المغاربة في كلّ المحطّات الفكريّة والسياسيّة، بالموقف الفقهيّ، والتّرشيد الفكريّ، سواء خلال فترة الثمانينات، أو حتى بعد أحداث أيلول، وتحديداً تفجيرات الدّار البيضاء، والّتي كان السيّد(رض) أوّل من أفتى بحرمتها وندّد بها، ثم ندّد بتفجير قطار مدريد الّذي تورّط فيه بعض التكفيريّين من المغرب، وأخيراً من خلال فتواه بحرمة اختطاف عاملين في السفارة المغربيّة في العراق على يد جماعة تكفيريّة وتضامنه معهما، ما يعني أنّ السيّد(رض)، كان يولي المغرب عناية خاصّة، وهو الأمر الّذي يدركه كلّ المتتبّعين والمحلّلين للحالة الإسلاميّة في المغرب.

 

مستقبل الإسلام

ـ ما مستقبل الإسلام والمسلمين في المغرب في ظلّ الأزمات والتحدّيات الّتي تعصف بالواقع العربيّ والإسلاميّ عموماً؟

ـ إنّني أعتقد أنّ الإسلام سيبقى هو الإطار العام لحركيّة الاجتماع السياسي المغربي، لكنّ السّؤال ينبغي أن يتوجّه حول ماهية الفهم والتمثّل الإسلاميّين، فلا أحد يستطيع أن يتحدّث باسم الإسلام بطريقة وثوقيّة، لبعدنا عن عصر النصّ واختلاف ألسنتنا وأفهامنا، وبالتّالي، فنحن أمام أفهام وتمثّلات مختلفة للدّين، ويسعى كلّ فريق لأجل أن ينتصر لفهمه وتمثّله في مواجهة الفريق الآخر.

إنّ المستقبل هو بلا شكّ للإسلام الوسطيّ المعتدل، المنفتح على الآخر والمتعايش معه، ولا مستقبل لفكر إسلاميّ متخلّف أو متطرّف، مهما استقطب من أنصار، فالتحوّلات الفكريّة السّريعة والطّارئة، يزول مفعولها أيضاً بسرعة، بينما التحوّلات الفكريّة العميقة والبطيئة، يصعب الخروج من مفاعليها ضمن مدى زمنيّ قصير