السلام أصعب من الحرب بكثير. في الحرب أنت تقاتل عدوك الذي تكرهه وتسعى للتخلص منه وبالتالي لا تصارع ذاتك بل تنسجم معها. في السلام، أنت بحاجة إلى ان تروض نرجسيتك وتقاوم غريزتك وتقبل بوجود عدوك وبضرورة أن تنظم قواعد للعلاقة معه تقر له بالوجود الدائم. يميل العقل الإنساني إلى فهم العالم بمنطق الثنائيات: الخير والشر، جماعتنا وجماعتهم، وهي طريقة للفهم لا تشجع على التسويات والاعتراف المتبادل والحلول الوسطى. لكي تصل إلى قناعة بجدوى السلام عليك ان تختبر كل كوارث الحرب وتستنتج ان ليس كل الحروب تنتهي بنصر مطلق أو هزيمة مطلقة، وان النصر والهزيمة هما نسبيان، وان السلام هو اعتراف بهذه النسبية قبل أي شيء آخر. لذلك يحتاج السلام الى موقف فكري عام يناغمه، إلى إقرار بفكرة الاختلاف وبإمكانية تعدد "الحقائق" والإيمان بان هنالك حدودا لقدرتنا على تشكيل او امتلاك محيطنا، وهذا الموقف الفكري هو الذي يصنع تدريجيا ثقافة للسلام تمهد الطريق في الغالب إلى تطور فكري وفلسفي ومعرفي يفكك الأساطير والمقولات التي قامت من أجلها الحرب. وكما تحتاج الحرب إلى طرفين على الأقل، كذلك هو السلام.
لماذا فشلنا حتى اليوم بصناعة السلام في العراق؟ لأننا لم نستخلص ذلك الدرس من كوارث الحرب بعد. ستظل الحرب ممكنة طالما كان هنالك قائد سياسي أو زعيم لجماعة يعتقد بأنه سيصل إلى أهدافه عبرها، وطالما كان هنالك مقاتل يقتنع بأنها وسيلة عيشه الوحيدة، وطالما كانت هنالك ثقافة اجتماعية ترى العالم بمنطق الثنائيات. لتمنع الحرب عليك ان تفكك سياسات الحرب، واقتصاديات الحرب، وثقافة الحرب. وهذه كلها مازالت مزدهرة عندنا. سياسات الحرب سجل شهر أيار أعلى رقم في ضحايا العنف في العراق منذ نهاية ما يسميه العراقيون بـ "حقبة الطائفية" ويقصدون بها الحرب الأهلية عامي 2006 و 2007. للعنف الراهن بعدان أحدهما عراقي والآخر إقليمي. يرتبط البعد العراقي بأزمة النظام السياسي الراهن الذي كلما اخفق ببناء وتوسيع شرعيته وتنظيم قواعد استيعابية للعبة السياسية، كلما سمح بتوسيع دائرة العنف الهادف أساسا إلى تقويض سلطة الدولة وما تمتلكه من شرعية. اذا كان هدف المؤسسات السياسية استيعاب الصراع الاجتماعي-السياسي بطرق سلمية، فان هدف العنف هو العودة لخوض هذه الصراعات بأدواتها المجردة. ما حصل في العراق في السنوات الأخيرة هو ان المؤسسات أثبتت عجزها عن إدارة الصراع بطرق سلمية وجرى تقويضها من داخل النظام السياسي نفسه نتيجة لتغول السلطة التنفيذية على التشريعية، وبفعل العقلية الإقطاعية المهيمنة داخل الطبقة السياسية حيث الزعماء يجدون نفسهم "أنوات" أضخم بكثير من المؤسسات. ونتيجة لذلك، انتقلت القناعة بعجز النظام إلى استنتاج بجدوى العنف، وانتقل الصراع من محاولة النفوذ إلى الدولة والاستفادة من مواردها في ظل نظام اقتصادي يعتمد في بنيته الأساسية على تقاسم وتوزيع الريوع النفطية، إلى محاولة تقويض تلك المؤسسات عبر عنف مكثف ركز على العاصمة بغداد وهدفه الواضح والصريح إكمال تقويض شرعية الدولة عبر تجريدها من قدرة حماية الناس ودفعهم إلى البحث عن شبكات حماية بديلة. في العلاقات الدولية وحقل الدراسات الإثنية، هنالك نظرية تعرف بـ "نظرية المأزق الأمني Security Dilemma Theory "، ومفادها انه في نظام متعدد الأطراف، تصبح محاولة احد هذه الأطراف تعزيز أمنه وقوته عامل استفزاز للآخرين يدفعهم الى رد فعل يستهدف تقويض هذا الشعور بالأمن. ويمكن القول، ان ذلك يجري في العراق بخطين متوازيين، الأول، هو شعور عام في الوسط السني بالتهميش الناتج عن سيطرة وتنامي قوة الأطراف الشيعية داخل بنى الدولة، والثاني، هو ان الطرف الذي يسيطر على المؤسسة الأمنية قد عزز من قوته بحيث بات يمثل تهديدا حتى للأطراف التي تنتمي الى ذات البنية الطائفية. أي ان طبيعة الصراع تتسم بالتركيب، فهو من جهة صراع إثنو- طائفي تقليدي، ومن جهة أخرى هو صراع بين دولة تريد ان تخلق منطقها الخاص وتؤسس قوتها المنعزلة عن ذلك الصراع الإثنو-طائفي وبين خصوم يخشون ان تؤدي القوة المتنامية لمن يسيطر على تلك الدولة إلى إضعافهم. ما قام به المالكي من استهداف لخصومه السياسيين السنة جاء ليؤكد تلك المخاوف، وصار يدفع "الآخرين" إلى التصرف غريزيا باتجاه تحجيم سلطته وتقويضها، وذلك يترجم على الأرض إضعاف المؤسسة الأمنية التي ارتبطت به شخصيا بحدود أخلت بقواعد التوازن السابق. أما البعد الإقليمي فهو مقترن بالصراع الذي بات يرى في الهلال الخصيب حيث تتواجد ثلاثة مناطق رخوة (العراق، سوريا، لبنان) ساحة حرب واحدة بجبهات متعددة. تؤثر اتجاهات المعارك في احدى هذه المناطق باتجاهاتها في منطقة أخرى، وهنالك تعبئة إقليمية تحصل على أساس طائفي يضعف الكابح المرتبط بالهوية الوطنية لصالح تضامنات عابرة للدول وتحالفات تجمع دولاً إقليمية بميليشيات محلية. تزايد الاشتباك بين هذه الجبهات يضعف إمكانية الوصول إلى تسوية منعزلة فيها ويعقد طبيعة الصراع السياسي الداخلي. اقتصاديات الحرب إن الصراع الأكبر في الحرب الأهلية لا يجري بين المعسكرين المتحاربين، بل يجري داخل كل معسكر. في الحرب الأهلية، أنت بحاجة لأن توحد معسكرك الداخلي وتتجاوز الانقسامات الداخلية وتخلق شبكة من المصالح والمنتفعين وتقنع الزعامات المحلية بأنها تربح من هذه الحرب. عليك ان تخلق اقتصادا للحرب الأهلية يدر أرباحا تسمح لشبكة المنتفعين تلك بالسيطرة على مجتمعاتها الصغيرة وتعبئة المقاتلين و"الشهداء" وقمع المترددين أو "الخونة". عندما ندرس أي حرب أهلية، علينا أن نبحث عن مصادر التمويل، عن المافيات التي تصنعها الحرب والتبادلات غير الرسمية والنفط المهرب و الدعم الخارجي. الحرب الأهلية هي نمط حياة ووسيلة استرزاق لا تنتهي إلا بتوقف مصادر التمويل وتفكك شبكات المنتفعين، أو بالانتصار الساحق لأحد الطرفين بحيث ينتقل هذا الطرف من اقتصاد الحرب الأهلية إلى اقتصاد الدولة ليخلق لنفسه مصادر تمويل جديدة بعد ان صار يمسك الأرض ويحكم السكان. الدولة كانت دائما بنت الحرب وتفككها لا يعني إلا عودة للحرب. بعد عامين على الحرب الأهلية في سوريا، أدى الصراع والعنف المتبادل إلى أكبر عملية تغيير في النسيج الاجتماعي لهذا البلد وإلى إقامة تنظيمات وشبكات جديدة أخذت ترسخ وجودها على أساس النتائج التي أفرزها الصراع حتى اليوم. في الصراع العراقي، ربما علينا ان نقلب السؤال الذي يتردد كثيرا على ألسنتنا هذه الأيام "هل ستندلع حرب طائفية جديدة في البلد؟" إلى السؤال "لماذا لم تندلع حرب طائفية شاملة حتى الآن في ظل هذا الشحن والاستقطاب للهويات المذهبية؟ " أعتقد ان هنالك عدة أجوبة على ذلك تتعلق بالانقسامات الداخلية داخل كل طائفة وبطبيعة التنوع المجتمعي داخل المذهب الواحد، لكن أحد هذه الأجوبة هو انه لم يتطور حتى الآن اقتصاد سياسي طائفي في العراق خلافاً للبنان حيث أن مأسسة الانقسام الطائفي وارتباط الطوائف بالممول الخارجي صنعا نوعا من الاقتصاد الطوائفي المستقل عن الدولة. صحيح ان هنالك جماعات شيعية وسنية تتلقى تمويلا خارجيا يضع على سلوكها السياسي أو العنفي شروطا ترتبط بمصالح الممول، لكن هذا التمويل ليس كافيا ليؤسس اقتصادا طائفيا. مازال المال المتأتي عن طريق الريع النفطي العراقي يحتل الجزء الأكبر من العملية الاقتصادية. أحد أهم العوامل التي ساعدت الجنرال بترايوس في قلب البيئة الاجتماعية الأنبارية ضد القاعدة كانت نجاحه في تأسيس اقتصاد زبائني محلي عبر التحالف مع الزعماء المحليين وتمكينهم ماليا كي يعبئوا المقاتلين ضد تنظيم القاعدة، كما ان اتساع موارد الدولة نتيجة ارتفاع أسعار النفط سمح بتمويل واحدة من أضخم عمليات التعيين في القطاع العام كوسيلة لاستيعاب نسبة من الشباب وإقامة قنوات ضمنية لتسريب جزء من الريع النفطي الى المحيط الاجتماعي لهؤلاء. لكن تلك الحلول المؤقتة لم ترفد بآليات دائمية بديلة، وسرعان ما أخذ التنافس يتمحور حول الحصص خصوصا ان الارتباط بالقوى السياسية صار المنفذ الأساسي للحصول على وظيفة بما كرس الحالة الزبائنية للاقتصاد وجعل جزءا كبيرا من مال الدولة يذهب الى تمويل الصراع بدلا من تمويل الحلول. ومع محاولة المالكي توسيع شبكة أتباعه في داخل مؤسسات الدولة مضعفا الشبكات التي نسجها الآخرون، لاسيما القوى السنية، فإن الأطراف المتضررة راحت تبحث عن صياغات بديلة وباتت ترى ان قوة الدولة (وهي في هذه الحالة الدولة التي يسيطر عليها المالكي) ستهمشها اكثر، ومن هنا جاءت فكرة الإقليم السني. البحث عن إقليم سني يقترن بالبحث عن اقتصاد سياسي يمول هذا الإقليم ووجوده، ولكن هذه العملية ستكون استكمالا لشروط الحرب الطائفية الشاملة أو التقسيم لأنها ستستكمل تحول العقائد الطائفية إلى "سرديات وطنية"، وستطلق عمليات عنيفة جديدة لبناء دويلات على أنقاض العراق الحالي. الحل الفيدرالي على أسس إدارية يبقى اكثر نجاعة للتسوية بين النزوع السلطوي للمركز القوي والنزوع الصراعي التقسيمي لفيدرالية الطوائف. ثقافة الحرب تزدهر ثقافة الحرب في بيئة ثقافية تحمل ثنائيات حادة مثل "سنة-شيعة" و "عرب- كرد". وهي بيئة يزدهر فيها صراع المظلوميات، فكل جماعة تعتقد أنها تتعرض للظلم ويتم توظيف هذا الاعتقاد لخلق ثقافة مقاتلة تبحث عن الانتقام، ثم تستكمل الحرب الأهلية والعنف المتبادل عملية صناعة الهويات المتحاربة. قوة الجذب الهائلة التي تمتلكها فكرة المظلومية في ظل وسط اجتماعي يسوده الإحباط والإفقار والجهل، هي التي تصنع أشكال العنف الأكثر بشاعة والتي تغذي بدورها شعور "الضحية" ورغبة الانتقام لدى الطرف المقابل. يترافق كل ذلك مع عملية صناعة الرموز التي تميز "جماعتنا الداخلية" عن "الجماعة الخارجية". توضح مناهج علم الاجتماع النفسي انه في كل حالة صراعية يصبح هنالك ميل لتأكيد الاختلاف عن الآخر وصياغة تضامنات جمعية متنافسة، ومن هنا يبدو صعود تأثير التعبئة الطائفية نتاجاً للتأكيد على عامل الاختلاف الطائفي ومحاولة تعميق هذا الاختلاف عبر الرموز المتضادة: "أتباع أهل البيت" في مواجهة "أتباع أهل السنة"، "علي في مواجهة عمر"، "الأئمة في مواجهة الخلفاء"، ومع حالة الاستقطاب الحاد تلك يفوت على الكثيرين رؤية التزييف الكبير في هذه الثنائيات التي لا تعكس تناقضات تاريخية حقيقية في معظم الأحيان. هنالك أيضا تأكيد على الرموز الذاتية للجماعة كما حصل لدى الشيعة من تكريس للبعد الطقوسي الخاص في مذهبهم والمتمثل بزيارات المراقد، وآخرها إرسال وفود الحجيج من العراق إلى دمشق لزيارة مرقد السيدة زينب في استعراض يربط الطقوسي بالسياسي ويؤكد على قيمة الاستشهاد في سبيل المذهب، وهي قيمة حفزت الكثير من الشباب لتأسيس لواء "أبو الفضل العباس" دفاعا عن المرقد من هجمات الجماعات السلفية الجهادية. وفي ظل عملية تكوين الهوية السنية الجارية يجري أيضا التأكيد على رموز خاصة للجماعة وشحنها سياسيا وتعبويا كما نرى في خطب رجال الدين من على منابر الاعتصامات، والاستعانة بترميزات تاريخية من مثل " أتباع الفاروق" لإسقاط ذلك على الحاضر، من حيث ان الرواية الشيعية الطائفية لا تنظر بود إلى الخليفة عمر ومن حيث ان الأخير قد اغتيل على يد "فارسي" وهو ما يخدم الرواية السنية الطائفية عن ترابط بين الصراع المذهبي والصراع العربي-الفارسي. هكذا يوظف التاريخ لصناعة الأسطورة، وتوظف الأسطورة لصناعة الجماعة، وينقل الصراع من أبعاده السياسية إلى صراع بين جماعات متماسكة بفعل الإيمان بمطلقات متضادة وبفعل الاعتقاد بمسؤولية تاريخية زائفة في الانتصار للحق. إن لم نفهم هذا التشابك بين الأبعاد السياسية والاقتصادية والثقافية لن نكون قادرين على تفكيك منطق الحرب وعلى صناعة البديل. مازال علينا الاختيار بين حرب تدفعنا إليها غرائزنا ونرجسيتنا ومطلقاتنا، وسلام يدفعنا إليه ماتعلمناه عن مآسي تلك الحرب.. ولا نهاياتها... |