راية العباس !!

 

إذا لم تخذلني ذاكرة الأمكنة، فان منطقة (السميده)، هي نهاية محلة الجعيفر الكرخية القديمة، وموقعها الحالي عند آخر الشقق السكنية في شارع حيفا، هنا كان منزلنا، وكانت مدرستي الابتدائية وعلى مبعدة مئة متر او تزيد قليلا، تنهض بوابة كبيرة لبستان مترامي الأطراف، كانت الناس تدعوه (بستان السيد) عرفت لاحقا، ان المقصود به هو (السيد محمد الصدر)، الذي شغل منصب رئيس وزراء فيمن شغلوا هذا المنصب في العهد الملكي. انا اتحدث عن قرابة ستين سنة مضت، انها الاعوام الاولى من العقد الخمسيني، ربما كنت في الصف الثاني او الثالث الابتدائي، وقد نذرت لي امي، الحاجة صبرية الدليمي رحمها الله (علما) ارفعه في عاشوراء واشارك فيه مع موكب العزاء الذي يمر -كلما حلت المناسبة- من امام دارنا في طريقة الى بستان السيد، حيث يتوقف الموكب هناك، ويكون السيد محمد الصدر في استقبال رؤساء الموكب، قبل ان يدخل الجميع الى البستان، تاركين اعلامهم عند البوابة لسبب ما زلت اجهله، وكان نذر امي قد جاء بعد تعرضي الى حالة مرضية كادت تودي بحياتي وعندما شفيت وتحقق مرادها، وفت بنذرها وعملت لي راية صغيرة بلون اخضر، خط ابي فوقها عبارة (يا حسين) بلون مغاير لا اذكره، غير أن ذلك أغاظني، فقد كان شقيقي القريب من عمري، اسمه (حسين) وبيني وبينه ما بين الاشقاء الاطفال من مناكدات وغيرة، مع انني ادرك جيدا، ان الامام الحسين (ع) هو غير شقيقي حسين العاني، الذي لم يبق لعبة لي الا وسرقها او حطمها، كانت مشكلتي مع (التسمية) التي استطعت حلها بالعناد والبكاء، وخضعت والدتي لسطوة الحنان وسلطان الامومة، خاصة وان بقية من بقايا المرض لم تغادر جسدي، وهكذا حصلت على راية جديدة، بالحجم واللون نفسيهما، وفوقها كلمة (العباس)، وباتت عندنا رايتان الاولى رفعتها امي على ستارة السطح بصورة دائمية، والثانية ملكي الخاص لا يقرب منها احد! حل عاشوراء، ومثل كل سنة قدم الموكب، سمعنا الصوت من بعيد، كنا اولاد الطرف نستعد للمشاركة فيه، وقد خلعنا دشاديشنا، وربطناها على اوساطنا، وتعرت صدورنا، وكان اغلب الاولاد يحملون مثلي رايات صغيرة ... ثم اندسسنا في الموكب لحظة وصوله، كنت في داخلي مزهوا برفع راية العباس فوق رأسي، ويدي تلطم صدري بحماسة كما لو كنت في منافسة مع الاخرين، ووصل الموكب الى بوابة البستان ورأيت السيد محمد الصدر لاول مرة، رجلا فارع القامة، ضخم الجثة، طويل اللحية، يرتدي جبة سوداء، وتركنا أعلامنا في الخارج كما يقضي العرف، ودخلنا البستان، كان هناك بضعة رجال في مدخل البستان قد تولوا عزلنا ـ نحن الصغار ـ وقدموا لنا اقداحا من العصير، ثم طلبوا منا بلطف مغادرة المكان، فيما واصل الكبار مسيرتهم، وحين خرجنا من البوابة وجد الاولاد جميعهم اعلامهم الا علمي كان مفقودا، فعدت منكسرا واخبرت امي بحكاية العلم، مسحت حزني بكفيها ووعدتني براية جديدة، وكانت جارتنا (ام عبد الامير) في بيتنا، وسمعتها تقول لامي (راية المحروس ـ تقصدني ـ اخذها واحد شيعي يطلب بيها مراد، لان راية سني) وظل الامر عصيا على فهمي، وما زال بعد ستين سنة، فاذا كان السنة يطلبون المراد من الشيعة، واذا كان الشيعة يطلبونه من السنة، اذن كيف يفكر ابناء الافاعي، باشعال حرب بينهما وراية العباس تزهو فوق رؤوس السنة؟!