اتحاد السنة والشيعة خطة تصعب مقاومتها!

 

إن نقل وتوارث الخبرات في التجربة السياسية العراقية مثير حقا. لكنه مثير في جانب محدد: حجم التوارث السلبي فيه. مما لا شك فيه أن المثل الطالح والشرير أيسر على التبني، وأكثر إغراء، وأعظم مغنما، حينما يُنظر اليه من زاوية المصالح الشخصية الأنانية، والربح السريع والمباشر. هذا أمر يقع ضمن طبيعة البشر، ويشمل الأفراد في الأعم، لكنه يشمل الجماعات المتناحرة أيضا، على نحو أضيق. إن الحديث عن توارث الخبرات السياسية والاجتماعية والثقافية، بثوبه العام، أمر مختلف تماما، لأنه يرتبط بمصالح شعب، وبتاريخ وهوية مجتمع كامل، ذي مصالح متنوعة، لكنها محكومة بقاعدة التوافق القانوني الضروري، وبقواعد التنازلات الجماعية المتبادلة. إن توافق القوة والتوافق الإرضائي، المبنيين بديلا من التوافق القانوني، هما الأساس الحسي للانتقائية السياسية، والمرجعية العقلية لتوارث الخبرات الشريرة في عملية إدارة السلطة. من هنا تكون حسابات نقل الخبرات مختلفة نسبيا، الى حد ما. لكنها في التجربة العراقية ظلت محكومة بأطر تأريخية مُقيّدة، تكاد تجعلها غير قادرة على بناء تراكم إيجابي، وعلى الوصول الى استنتاجات مصيرية، وعلى تكوين عِبر مستخلصة من سلسلة المآسي التي عاشها المجتمع. على العكس، لم يزل المجتمع يعيد إنتاج المآسي والكوارث، ويعيد تجديدها، ولكن بثياب مختلفة. إن المجتمع العراقي غير قادر، حتى الآن، على كسر حلقة الشر المضروبة حوله، وتاليا لا يستطيع تشغيل فعاليته العقلية، وطاقاته المادية والروحية، ومخزوناته الوراثية، بشكل منتج وسليم. إن المجتمع العراقي يبدو، عند كل هزة تاريخية، كأنه كيان يتأسس من جديد. أو بناء يتهدم من جديد، يقوده سياسيو المصادفة، وليس سياسيو الضرورة والتجربة. إن التراكم في التجربة العراقية يقود دائما باتجاه صناعة واقع اجتماعي وسياسي مربك في أحسن الأحوال، ومعيق وضار ومفرّق ومغلق في الأعم. لهذه الأسباب، لا يكون مثيرا للدهشة أن نرى سياسيّا شيعيّا يبرّر الوقوع في براثن الأميركيين بالقول: إنهم أفادوا من تجربة ثورة العشرين، التي قادها الشيعة وحصد ثمارها السنة! وفي الجانب المقابل، يحاول سياسيّو المصادفة في الجانب السنيّ الإفادة من التجربة ذاتها، ملوّحين بالعنف وسيلة لا لطرد المحتل، وإنما لاقتسام الأرض. ويفعل الأكراد الأمر عينه بطريقتهم الخاصة. تلك إفادة رابحة وخلاقة بحق، استثمرت الدرس التاريخي جيدا- النصر والهزيمة- وأفادت منهما إفادة تامة، ولكن من طريق تسليم الوطن بأكمله الى أجنبي، لم يكن يطمع، حتى في الخيال، بمثل هذا الكرم الوطني، وبمثل هذه المعرفة الدقيقة ببواطن التاريخ وتطبيقاتها السخيّة، ولكن الشريرة والمؤذية. إن النتائج النهائية لمثل هذا التوارث الضار للخبرات، هو اندفاع الكتل نحو الوحدة الأنانية الضيقة، من طريق الارتداد نحو مكوناتها البدائية: الطائفة والعرق والمنطقة ، بديلا من الوطن. من هنا نجد أن الخاسر الأكبر في المعارك السياسية هو الوطن والمواطن عامة، الذي نراه واضحا في تمزق الهوية الجامعة. لأن نهوض المكونات الدنيا: الطائفة، العرق، العشيرة، إنما هو تعويض ارتدادي، سببه فقدان الأفق الوطني الجامع. هذه ليست مفارقة لإثارة العواطف. هذه حقيقة المأساة العراقية القائمة، التي لم تعد تثير البكاء لفرط بشاعة وبلادة منفذيها وحجم استهانتهم بكرامة الإنسان ومحتواه، الإنسان اسمى المخلوقات من الناحية المثالية العامة دينية ودنيوية، وغاية العمل الحكومي من الناحية الوظيفية والعملية.
وإذا كانت الذاكرة التاريخية تستخدم الخبرات الاجتماعية بشكل سلبي في المثال السابق، من طريق تصعيد نوازع الكره والأنانية والتحارب الطائفي، وإكسائها طلاء تبريريّا كاذبا ومنافقا، باسم المظلومية، وباسم المثل الأعلى التاريخي، فإنها فعلت عكس ذلك في ظروف تاريخية قهرية سابقة، لا تقل صعوبة وخطورة عن مرحلتنا الراهنة. إن الذاكرة التاريخية العراقية تسجل لنا، بحضور عظيم، أمثلة مشرقة من التصعيد الإيجابي للدوافع، الذي يرتقي بالسلوك والأفعال والعواطف الى منازل سامية، لا تخدم وحدة المجتمع فحسب، بل تخدم أيضا قوة تماسكه، وتخدم بدرجة أساسية مشروع تغليب الحياة على مشاريع إشاعة تقاليد الموت واستثمارها سياسيا لمصلحة قوى حزبية. 
استخدم د. علي الوردي تعبيرا على قدر كبير من الإثارة والفطنة "استفحال التقارب الطائفي"، وهو يصف العلاقة المتينة الذكية، التي تم تطويرها بين السنة والشيعة ، والتي صنعت الأساس الروحي لوحدة ثوار ثورة العشرين: تلاحم السنة والشيعة. فقد ظهرت بدعة عجيبة، اسمها "الموالد التعازي"، تجمع بين موالد السنة وتعازي الشيعة. وقد تطورت الى تقليد أسبوعي منتظم، ترافقه زيارات وتبادل مشاعر وطقوس جديدة، لم تعرفها الطائفتان من قبل قط بهذا الحذل والصفاء والقوة، منها التغني بأبيات تمجد خصال عمر وأبي بكر وال هاشم في عين الوقت. لقد أثار "استفحال" هذه الظاهرة الإنكليز. وقد سجلت غيرترود بيل، مستشارة المندوب السامي البريطاني، مخاوفها من تلك الظاهرة قائلة: " ان المتطرفين اتخذوا خطة من الصعب مقاومتها: وهي اتحاد الشيعة والسنة، أي وحدة المسلمين"(ص 165) وفي مواجهة هذا عملت بريطانيا على تغذية الصدام بين الجانبين بكل الطرق، حتى أنها بدأت بترويج شائعات كاذبة، عن أقوال منسوبة الى المرجع الشيعي الشيرازي، تتصف بطابع التحقير. مثل الادعاء بلومه لبعض الشيعة الذين حضروا الاحتفالات المشتركة، ونعته للسنة بألفاظ تحقيرية.
وفي هذا السياق نجد أن نقل هذه الخبرات لا يقتصر على المواطنين وحدهم. فالمستعمرون، على الرغم من تغيّر أسمائهم، إلا أنهم يتوارثون أيضا تقاليد العنف والكراهية، ويعملون ويخططون لغرض تصعيد النوازع العدوانية في المجتمع لصالح سياستهم. لأن ما هو سلبي لنا في أفعال المستعمر أو المحتل، عمل إيجابي ونافع له، ضمن خططه ومصالحه وسياسته.
منذ سنواتهم الأولى في العراق عمد البريطانيون الى استمالة الأديان الأخرى، من طريق تخويفها من "وحدة المسلمين". وقد عمدوا عند الاستفتاء على الاحتلال عام 1919 الى اختيار ممثلين عن الأديان والمذاهب، بما لا يتناسب مع حجم السكان. فكان توزيع ممثلي الأديان كما يلي: 25 للسنة ، 25 للشيعة ، 20 لليهود ، 10 للمسيحيبن. وهي نسبة لا تعكس واقع التركيب الديني على الأرض، لكنها تعطي ترجيحا للاحتلال في حال وجود تناحر سني شيعي. بيد أن التناحر المطلوب لم يحصل. لأن السنة والشيعة أيدوا اختيار ملك عربي، على أنه البديل المقبول من الاحتلال والحماية، بينما أيد ممثلو اليهود والمسيحيين فكرة الحكم البريطاني المباشر أو الانتداب والحماية. (لمحات من تاريخ المجتمع العراقي، الوردي 84 )
لكن هذا الكرم الاستعماري لم يكن تدبيرا فنيا وتنظيميا خالصا، هدفه ضمان أغلبية مؤيدة فحسب، بل كان في جوهره خطة شريرة، أبعد مدى، استخدمت كوسيلة لإثاره الكره والأحقاد وعدم الثقة بين مكونات الأديان المختلفة. نظرا لما يتضمنه هذا التوزيع الجائر من ظلم للأكثرية السكانية. إن تطور بناء "قوات الليفي" التدريجي، باتجاه حصره في مكون ديني وعرقي محدد، مظهر آخر من مظاهرعسكرة الدين، استخدم في بعض جوانبه، لغرض إذكاء الشقاق وزرع بذور عدم الثقة بين أبناء الوطن الواحد.
إن الوحدة المذهبية، بين السنة والشيعة، التي مورست شعبيا وجماهيريا واسندت عشائريا ومرجعيا، وحوربت استعماريا وحكوميا، كانت وراء قوة زخم النهوض الشعبي، الذي أخاف المستعمر، وكانت خلف ظهور حركة المعارضة السياسية الوطنية الجديدة.
كان هذا الدرس البريطاني أول الدروس التي نقلها البريطانيون الى حلفائهم الأميركان، الذين خططوا جيدا لمنع إمكان حدوث وتكرار تلك الوحدة الخطيرة. لقد كشف أحد النزاعات الجانبية، حول ملكية عقارات، واحدة من الجنح الوطنية، التي اعتاد السياسيون ارتكابها بمساعدة الاحتلال. ففي النزاع حول إشغال عقارين في منطقة "الزوية"، تعود ملكيتهما الى وزارة المالية، مخصصين رسميا لرئاسة الجمهورية، لأنهما جزء من مجمع القصر الجمهوري، ظهرت فضائح طائفية تمت تحت عباءة الاحتلال. شُغل العقاران من قبل شخص يدعى سعد الجنابي، على ارتباط بقائمة علاوي. ولا أحد يعرف سبب إشغال عقارين من ضمن مجمع القصر الجمهوري من قبل الشخص المذكور، وكيف تم له ذلك. حوادث النزاع أوصلت الى أن المذكور حصل على إذن من قوات الاحتلال (سلطة التحالف المؤقتة) باشغالهما اعتبارا من 8 آذار 2004. أما السبب فهو لغرض إنشاء "هيئة الإذاعة السنية"! وهي محاولة مبكرة جدا لتصعيد الصوت الطائفي، بتخطيط من قبل قوات الاحتلال وقائمة علاوي، التي تدعي التحرر من النوازع الطائفية. لقد سعت سلطة الاحتلال المبكرة الى إنشاء ما يعرف بهيئة الإذاعة السنية، لكي تجعل منها أداة عقائدية وعاطفية تساند الأعمال الأرضية، التي يقوم بها التكفيريون. كما أريدَ بها شحذ همّة الطرف الآخر، وحثه على البحث عن توازن مذهبي وعاطفي وأرضي، في هيئة ميليشات وشحن إعلامي طائفي، لغرض استكمال مخطط التطهير الطائفي. لكن مشروع التطهير قاد الى نتائج مفاجئة أخرى، غير محسوبة. فقد تحول الإرهاب التكفيري من مهندس خرائطي للفصل المذهبي بقوة السلاح، الى دولة وإمارات إسلامية، والى منشّط للفعل العسكري لدى الطرف المذهبي المنافس. وتحول جزء من العنف باتجاه معاكس لسياسة المحتلين أنفسهم، نظرا لتداخل المواقع الطائفية من جانب، ولاشتباك حدود السلطة المحلية وجيش الاحتلال سياسيا وميدانيا من جانب آخر. والجميع هنا يعرف أن سلطات الإحتلال قامت بتصميم الانتشار العسكري، على قاعدة ثابتة: تقسيم مراكز الشرطة العراقية في المدن، ومواقع الجيش في القواعد، طبقا لخطط الاحتلال العسكرية. في الأبنية الأمامية يكون موقع القوات المسلحة العراقية، وفي الجزء الخلفي قوات "التحالف". وهذا يشمل حتى منشآت المنطقة الخضراء، وترتيب سيرالأرتال العسكرية، وطرق الإمداد والجهد الاستخباري. كانت الحكومة ومؤسساتها العسكرية، بأكملها، درعا لحماية ظهر قوات الاحتلال، وهدفا مباشرا لنيران الصراع الرامي الى تثبيت قواعد توازن القوى بين الكتل والطوائف المتصارعة داخليا، الموحدة تحت راية الاحتلال.
لقد خرج الاحتلال الأرضي، لكن الأثر السياسي للمحتل لم يزل ثابتا، فهو مرجعية الجميع، وهو الإرث المقدس حينما يضطر المختصمون، في لحظة الانفجار المحتمل، الى البحث عن حلول للنزاعات المستعصية.
آن للجميع، سنة وشيعة، أن يتعلموا من آبائهم، وأن يعيدوا معرفة أنفسهم، لكي يعرفوا كيف يحمكون أنفسهم بأنفسهم. ذلك هو السبيل الوحيد، الذي يقود الى بناء وطن.