اسطنبول ! هل بدأ خريف (الاسلاميين) ؟ 2

 

منذ تغيّر قطبية العالم و ارتفاع شعارات (الديمقراطية الجديدة) و ظهور موجة الصراعات الدولية و الاقليمية الجديدة القائمة على العِرق و الدين و تطورها الى صراعات دينية اخذت مديات عالمية ظهرت قمتها في احداث 11 ايلول عام 2001 و تطورت اقليمياً الى صراعات طائفية، اضافة الى الاكتشافات الجديدة المذهلة في مجالات النفط الخام و الغاز سواء في منطقة قزوين و ما صارت تدرّه انابيبه الناقلة الى اوروبا، من اموال فلكية على تركيا ـ و انفتاح آسيا الوسطى الاسلامية الأميّة في التعامل مع السوق الرأسمالي، امام رجال الاعمال الاتراك (1) و الاحتكارات الدولية الموظفة لهم، ممن وجدوا في ذلك فرصاً ذهبية لازدهار اعمالهم و ارباحهم (2) ـ . . او الاكتشافات الجديدة و ظهور الغاز الصخري و النفط في المناطق التركية الجنوبية التي تضم كردستان تركيا فيها . .
التغييرات التي ادّت بمجموعها الى تغييرات هائلة متواصلة في كل دول العالم الصناعية و النامية . . و شملت الاقطاب الرأسمالية العليا و اجزاء العالم الغنية ذات الفئات و مراكز القوى المترابطة مصالحها مع مصالح و حاجات الاحتكارات العالمية الاكبر و الجديدة الصاعدة منها، ممن في مقدمتها تركيا . .
و التي شملت بشكل اسرع الدول : المنتجة للخامات، دول اسواق تصريف اجيال البضائع الاحدث التي تتكاثر كالفطريات بفعل الثورة التكنولوجية المتواصلة، الدول ذات المواقع الجغرافية الاستراتيجية . . و الدول التي لاتبالي بقضايا البيئة قانونياً ـ او جُعلتْ هكذا ـ و التي تتسابق عليها انواع الاحتكارات لإقامة مشاريعها فيها بعيداً عن دولها هي و مراكزها الصناعية التي تدفع ضرائب متزايدة بسبب تلويثها للبيئة في دولها هي، اضافة الى ماتلعبه العولمة و سهولة انتقال رؤوس الاموال عبر حدود الدول، التي اخذت تجتاح المنطقة و مكوّناتها بفعل تلك التحولات . .
و فيما يرى عديد من المراقبين ان ماتلعبه القوى العظمى من دور استباقيٍّ في خلق مناخ ديني جديد في تركيا لإستيعاب متغيّرات المنطقة، في الدولة التي تأسست و عاشت على اساس علماني بحماية الجيش لدستورها، و بسيادة مرجعية اسلامية فيها تعتمد النصح و الارشاد . . فانها خلقت بذلك تطورات دينية اجتماعية اقتصادية متناقضة متصادمة، لعب فيها تغيّر عديد من مراكز القوى من عسكرية (امنية) اقتصادية، الى عسكرية اسلاموية امنية اقتصادية بيروقراطية، يشكّل المهاجرون المتديّنون و الاغنياء من ريف الاناضول دوراً واضحاً فيها .
ادّت بالتالي الى ان يشهد المجتمع التركي في فترة حكم اردوغان تغييرات تسببت بتسلّط و اثراء فئات و فقدان سلطة و ثروات فئات اخرى، و الى اضعاف دور الجيش في حماية علمانية الدولة بعد ان سيطر عليه من يحكم من المدنيين، في وقت اخذت تتحطم فيه قواعد اساسية من العلمانية التي سار عليها المجتمع و بنائه الاقتصادي الاجتماعي طيلة اكثر من ثمانين عاماً . .
و الى غيرها من تغييرات عمّقت الانقسامات الطبقية، وأثارت قلق العديد من رجال الاعمال و اصحاب المصالح الانتاجية و الخدمية الهامة ممن يستندون على قوانين علمانية أتاتورك، ومعهم العديد من رجال الاعمال الليبراليين، الذين يرون في أردوغان بكونه فرداً يسعى لتركيز السلطات بيده ، ويرون في مشاريعه (التنموية) المربحة لكبار المقاولين الاتراك من المقربين لحزبه ابتذالاً و خسارة، تلك المشاريع واسعة النطاق التي تؤدي الى اجلاء الفقراء من احيائهم، لبناء مجمعات سكنية فاخرة، ومراكز تجارية واسعة على أنقاض بيوتهم المتوارثة، لتحقيق ارباح اعلى بلا مبالاة بهويات المدن و معالمها التي تعتز الناس باطيافها بها، و لا باوضاع اهل المدن و خاصة الكادحين منهم . . في سلسلة لاتنقطع من المشاريع التي تؤديّ الى تحويل اقتصاد تركيا الى اقتصاد اكثر تبعية، اقتصاد خدمي سياحي استهلاكي، الامر الذي يفاقم الاحساس بالتذمر والاستياء، بين الكثيرين من سكان المدن ومثقفيها . . و خاصة في اسطنبول،
و يرى خبراء بانه لابد من التذكير بأن قوى غربية و شرقية و خليجية كبرى، اضافة الى امتداداتها التركية، فسحت المجال لأردوغان صاحب " المساجد ثكناتنا، والقباب خوذنا، والمآذن حرابنا والمؤمنون جنودنا " (3) و دعمته . . بعد انشقاقه عن حزب العدالة الذي منع دستورياً حينها، و تأسيسه حزب العدالة و التنمية الاسلامي المتنوع الاجنحة ـ ابرزها: المحافظين المتدينين، ليبراليين متدينين، قوميين ـ على اساس موائمة ( محاولة توفيق ) بين العلمانية الرسمية و الاسلام السياسي، حين اعلن اردوغان عن عدم معارضته للاستمرار في الناتو و احترامه لحقوق المرأة الدستورية، و سعيه لعضوية تركيا في الاتحاد الاوربي . . و اتباعه المرونة في حل المشاكل التاريخية لتركيا مع جيرانها و مع الاكراد . .
حتى و صل دعم القوى الغربية و الشرقية و الخليجية الى حصول حزبه على الاغلبية في انتخابات عام 2002 في ظروف اقليمية كانت تساعد على بروز تركيا كقطب بارز في المنطقة لكل ماذكر، و في وقت امتازت المنطقة فيه بهيمنة قوتين متنافستين مالياً و عسكرياً و صناعياً و بشرياً هما ايران و العراق، عشية الهجوم على العراق و اسقاط الدكتاتورية فيه و عشيّة تصاعد تأزم العلاقات الايرانية مع دول المنطقة و الغرب . . فتفتّحت ابواب جديدة اخرى لتركيا لتحقيق ازدهار مدعوم باقطاب دولية . . في منطقة بدأت تتساقط اقطابها المنافسة كتساقط احجار الدومينو . .
من جهة اخرى اغدقت ذات القوى مليارات كثيرة دُفعت لحكومة اردوغان مقابل خدمة المشاريع التركية لمشاريع الرأسمال الغربي، و انعكس ذلك في تحسّن طفيف في دخول الأوساط الكادحة بعد ازمة 2001 المالية في تركيا، في ظروف يتواصل فيها التضخم النقدي.
من جانب آخر و رغم اصلاحات يمكن ذكرها لتوفيرها فرص عمل جديدة . . تتزايد شكاوي أوساط تركية تتسع و خاصة بين الشباب من أن حكومة اردوغان اصبحت ذات نزعة استبدادية متزايدة، و انها تضيّق باستمرار على الحريات الشخصية، الأمر الذي ادىّ الى احتجاجات متواصلة ووجهت بالعنف و الإعتقالات، رغم اعتراضات منظمات حقوق الإنسان الدولية عليها و التي ادّت الى احتجاج الإتحاد الأوروبي و تأخيره قبول تركيا كعضو فيه، و التي علّق عليها اردوغان في العام الماضي بعد بدء حصول تركيا على مايزيد على 20 مليار دولار سنوياً كعائدات لأنابيب نقل النفط و الهيدروكربون من قزوين الى اوروبا " لن نحتاج عضويتهم، و سيركضون هم وراءنا " .
في الوقت ذاته واصلت حكومة اردوغان الحرب في كردستان تركيا التي اشتدت دافعة عشرات آلاف الشباب من الجانبين الى محرقتها . . رغم الانعطافات الجديدة التي حصلت في توفير حقوق ثقافية لأكراد تركيا، و قبول حزب كردستاني كعضو شرعي في البرلمان التركي لأول مرة، فيما تتواصل جهود حزب العمال الكردستاني المتنوعة و نضاله المسلح من اجل الحقوق القومية العادلة للشعب الكردي في كردستان تركيا، و الذي تعزز بدور حكومة اقليم كردستان العراق الداعي الى حل المشاكل بالمفاوضات و الى ايقاف الحرب في ظروف كثيرة التعقيد، في وقت يتوقع فيه خبراء تزايد فرص كردستان تركيا في الحصول على مكاسب جديدة لحاجة اردوغان الى اصوات الاكراد في الانتخابات المقبلة . . (يتبع)

10 / 6 / 2013 ، مهند البراك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. سهّل ذلك كونهم مسلمين ايضاً، اضافة الى سهولة التعامل باللغة التركية و الآذرية معهم .
2. و ادخلتهم في منافسة شديدة مع امثالهم من الايرانيين .
3. وردت هذه السطور من قصيدة اوردها اردوغان في قراءة علنية له، و ادين بها قضائياً عام 1998 بتهمة التحريض على الكراهية الدينية.