هاهي الفيدرالية تطرح من جديد ، ليس من أجل تعزيز وجودها الدستوري وترجمته ، وليس لأنها شكل إداري متطور ويلبي حاجات المجتمعات المحلية ، وليس لأنها متفرعة من العقد الاجتماعي في مجتمع ديمقراطي ، بل لأنها حل لتفادي الحرب الاهلية .
هذا ما انتهت اليه مشاريع بعض النخب العراقية التي تظن أنها تقدم حلا ، بينما هي لا تدرك المشكلة ولا التبعات ، وعلى وجه التحديد لا تدرك أن من دواعي الحل الفدرالي هو التوصل الى تفاهمات وطنية قبل كل شيء . لتفادي النزاع الطائفي الباهظ التكاليف يختار البعض حلا طائفيا . الهدف العقلاني لا ينفي عنه ذلك ، لأنه من الآن غارق في لجة الانقسام الداخلي ، يتنفس روائح المستنقع السوري المميتة، والمجموعة التي تقف خلفه لا تعرف أن تطرق الابواب الصحيحة أو لا تريد. وسيكون المشروع طائفيا على نحو مضاعف مع تبعات خطرة ما أن يبدأ خطواته الاولى ، متحسسا ما يظن أنها حيازته الخاصة من الارض والمياه والسماء.
فيما عدا كردستان التي التقت فيها الظروف الداخلية والدولية بالارادة الشعبية الكردية وتنظيماتها السياسية لتحقق نظاما ما زال يتصير ، فإن سيرة الفيدرالية تشبه فقاعات غازية لتفاعلات فاشلة ما بين محافظات متخلفة يستشري فيها الفساد ، ومركز فقير فاسد هو أقرب الى كراج كبير للسيارات ومطاعم ونقاط تفتيش ووزارات لا تحل ولا تربط . ما زالت فدرالية الكرد كما نعلم تصطدم بالمركز ، علما أن المركز رمزي اكثر مما هو حقيقي بسبب هشاشته. إن الحديث عن مركز مهيمن هو مجرد نكتة . مركزنا لا يستطيع الاحتفاظ بوحدته الداخلية الا بواسطة الدوريات وانتشار الشرطة وعوارض العزل الكونكريتي.
باختصار ظل أفق المشروع الفيدرالي هوائيا ، لا يمتلك أي ثقافة قانونية أو ادارية او اجتماعية ، ومعزول عن الناس .
ابتداء بفيدرالية القاضي وائل عبد اللطيف في البصرة ، ثم مشروع المحافظات الجنوبية الثلاث الذي كان قد حظي بمباركة المجلس الاعلى ، والظهور الموارب في محافظة صلاح الدين على اثر ازمة سياسية، ثم ظهور متبرم في ديالى، لم يجترح الفيدراليون القدامى والجدد مجدا غير المغزى السياسي واطماع السلطة ، لكن خلفية المشهد اخفت دمدمة طائفية كانت تسمع بين الحين والحين. وها هي الدمدمة تتصاعد ، مع الحراك السياسي في المنطقة الغربية ، وازدياد مشاعر الغبن المشحون باجواء الربيع العربي (الاسلامي!) ، والتدخلات الاقليمية التي لم تعد خافية. لقد تحول المشروع من الجنوب الى الغرب ، تبعا لانقلاب ميزان القوى ، واولئك الذين كانوا يرون في الفيدرالية مؤامرة امريكية للتقسيم باتوا يعتقدون أنها طوق النجاة من التطاحن الطائفي . ومن أسهم في تثبيت الفيدرالية في الدستور ، في سياق التحالف مع الكرد ، يسلم بالفيدرالية كحق "طبيعي" على ان لا يكون "مختطفا بالقوة" حسب السيد رئيس الوزراء .
والحال أن من لا يريد فيدرالية بالاختطاف عليه أن يولد ظروفا طبيعية للحوار اولا ، وهو قادر على ذلك لو أراد ، من دون ذلك سيكون الجميع في حالة اختطاف. إن التنكر للطائفية ومحاربتها ينهي حالة الاختطافات المتبادلة - الاختطافات السياسية التي يقوم بها سياسيون طارئون بلا تدريب ويتصفون بالحمق ، والاختطافات الاجرامية التي تقوم بها المليشيات الطائفية التي تجري الان تمهيدا للذهاب بالوطن الى الحماقة الكبرى .
إن تعقيدات المشهد السياسي يزيدها تعقيدا الروح العدائية الكامنة في القادة السياسيين ، وهؤلاء يقدمون مصالحهم على مصالح الوطن ، ويفشلون في اي مسعى حميد لرأب الصدع . إن حفلات التبويس التي رأيناها مشهد اعلامي إن لم يلتحق به مشروع سياسي وطني. تحتاج المساعي الحميدة الى مشروع توحيدي قائم على تفاهمات عميقة وثقة متبادلة ، قبل الفيدرالية ، قبل كل شيء ، قبل الخطابات الكئيبة الكاذبة ، والتصريحات التي تبدو ذكية في حين يراد منها تبويش الخصوم . كيف يمكن اقامة اقاليم من دون تعاون ما بين المركز والاقليم ، وكيف يمكن سن قوانين وتأسيس هياكل الفدرالية من دون تفاهمات وطنية مسبقة؟
أزاء ذلك فإن من يريد الفيدرالية من اجل ان يكون قادرا على قطع الجسر، او يقف عليه مثل الجابي يسمح لهذا ويمنع ذاك ، عليه ان يدرك أن الفيدرالية هي تنظيم يتصف بالتجسير المتين بين المركز والاقاليم ينظمه القانون ، ولا تترك بيد اشخاص وعشائر وطوائف ومليشيات بل هي من اختصاص الدولة. إن تسييس القضايا الوطنية وتطييفها كما هو حاصل اليوم يضع العراقيل ازاء اي تحرك جاد يجعل من المشاريع التي تطرح لها معنى في سياق الوحدة الوطنية. من يسلّم بأن الفيدرالية هي الحل لتفادي الاحتكاكات التي لا طائل منها ، يجب ان يدرك أن هذا الحل ليس وصفة سحرية تحلّ كل شيء عن طريق التقسيم الجغرافي ، ولا بتوزيع أسلاب الدولة بين المحافظات . لا تبنى الفيدرالية لمجرد وجود تحديد إداري - جغرافي، بل هي تبنى بوساطة الدولة القائمة. إنها مشروع دولة يجيز لها ذلك مجتمع منظم بدستور.
قبل الفيدرالية هناك ارادة مجتمع حر لا تهدد وحدته المليشيات والعشائر وقادة المناطق والفاسدون في الجيش والشرطة . قبل الفيدرالية هناك دولة مدنية لا تركبها الاحزاب ، ولا تتقاسمها المصالح السياسية ، ولا يعبث بها لصوص الحكومة والبرلمان . قبل الفدرالية يجب اقامة مشروع وطني توحيدي ، يزيل العوائق امام الادارة الديمقراطية للدولة ، ويخلق جوا من الحوار الوطني ، ويبعد الوطن.
|