عاصفة معطرة بروث الابل

 

اتعجب عندما أقرأ بحوثا ودراسات عراقية غنية بالارقام والجداول الملونة حول كيفية تنفيذ التنمية ، ومكافحة الفقر والبطالة وازمة السكن والفوضى الاقتصادية ، والكاتب يعلم ان هذه الموضوعات هي بنية فوقية لا يمكن انجازها ما لم تتوفر لها البنية التحتية ، وتشمل البنية التحتية : وجود وطن موحد ، دولة ذات سيادة ، سلطات منفصلة ومستقلة ، دستور ملائم يحظى باجماع وقابل للتطبيق ، برنامج حكومي واضح ، سلطة نيابية قادرة على المراقبة والمحاسبة ، كل هذه العناصر غير متوفرة الا بالاسم ، الحكومة صارت مشكلة من المشاكل وليست لحل المشاكل ، هذه الدولة اسيرة الارهاب والفساد وكل منهما يرفد الآخر ويسانده ، الفساد زلزال اخلاقي اداري ضرب العراق ، وقد هتكت أمامه عصم الناس حاكما ومحكوما ، أما الارهاب فله قصة مرعبة وهو ليس مجرد ظاهرة جريمة منظمة بل هو منعطف حضاري ، فالمجتمع يدفع ثمن بقاءه اكثر من 3 عقود تحت عبودية الطواغيت ، ثم عقدا تحت هيمنة الارهاب ، ثم هيمنة الفساد الميؤوس من اصلاحه ، تراجعت الحياة الاجتماعية كثيرا ، ووهنت خيوط التضامن الاجتماعي ، وغلبت الحياة الفردية بكل ابعادها ، وتعرضت البنية الاجتماعية الى هزات خطيرة فسادت حالة الانطواء والاعتزال والشعور بالخوف من الآخر ، فوجدت قوى التخلف فرصتها الفريدة فسحقت قوى التطور والتحديث ، فكأن العراق زحف زمنيا بتأريخه متقهقرا ، البلد الذي كان بالمقارنة مع دول المنطقة مثالا للمدنية والعمران والوفرة الاقتصادية والفنون والآداب ، بينما كانت دول النفط الحالية تغرق في رمال البداوة والتخلف والعزلة ، لكن بعد عقود تجتاح بداوة نجد والحجاز هذا البلد بكل ارهابها وتكفيرها وجاهليتها ودمويتها وحمقها لتحول العراق المدني الى ساحة للقتل العشوائي والكراهية والعبث والتدمير الممنهج ، نموذج تأريخي مقلوب !! فبدل ان يذهب العراق لجلب البدو الى قصور الحضارة البغدادية النجفية الموصلية ، جرى العكس هم الذين هاجموه ليأخذوا به الى خيمة قرونهم الوسطى ، انتصر سكان الربع الخالي على عراق الحضارات ، اشتروا بعضا من النخبة السياسية ولقحوها بفايروسات الارهاب والطائفية والكراهية ، سيل بدوي حانق من رمال الحجاز الى رمال العراق ، منازلة أخرى بين الحضارة النهرية الخضراء وعدمية البداوة الكالحة ، علموا ضحاياهم لغة التقسيم والعدمية ، اعادوا دفن الشافعي وابي حنيفة ومالك وابن حنبل وشطبوا على المنجز الفقهي والاخلاقي والعقيدي للطائفة السنية الكبيرة العريقة المتسامحة ، اطلقوا في شوارع العراق جمل عائشة وعورة عمرو بن العاص وقرود يزيد اشباحا متحركة كلما صرخت في ظلام العراق اعادته قرنا اضافيا الى الوراء ، اصبحت حياة البلد زحفا الى الوراء على كل الاصعدة ... ان اعادة الحياة بحاجة الى مواثيق شرف لجميع الشرائح ، ميثاق شرف سياسي ، ميثاق شرف اعلامي ، ميثاق شرف عشائري ، ميثاق شرف طلابي ، ميثاق شرف مذهبي علمائي ، تعهد وضمان لمواجهة موجة البداوة المعطرة بروث الأبل ، تلك الموجة التي رافقتها موجة عراقية من التفكك الاجتماعي ، فقد تركوا الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كان الخائفون الصامتون يتصورون انهم سيحافظون على حياتهم ، لا يعرفون انهم بهذا الصمت يضعون انفسهم واهليهم في قبضة الفناء ، فهل من صحوة تبدأ بميثاق جديد ؟