قطر، هذه الإمارة الصغيرة المتدلية من رحم الخليج كما الفقاعة المنتفخة في مستودعات الغاز, الملتصقة بدهاليز الألغاز, النافرة كما الثألول المتورم بين أرداف مضيق هرمز, شبعت وكبرت وتبطرت وتعفرتت وتهورت بما فيه الكفاية, حتى قالوا: لقد امتلأت رئة قطر بالقطران, وانفجرت بمسامير قناة (الجزيرة), فبثت سمومها في عواصم البلدان العربية. . منذ بضعة أعوام كانت قطر تقطر بالود والورد والوجد, تغازل العراق, تستدفئ بشمس الرياض, تستظل بخيمة مجلس التعاون الخليجي, تتعطر ببخور البحرين, تهيم طرباً على أنغام محمد زويد, تلوذ بدروع قوات درع الجزيرة, لكنها تحولت فجأة إلى ثكنة عسكرية مفتوحة لخفافيش البنتاغون, وبحيرة مغلقة لتماسيح المارينز, فكانت أول من تبرع بإيواء القوات الأجنبية, التي نسفت العراق من شماله إلى جنوبه, وقلبت عاليه سافله, فتحالفت مع القوات المتحالفة ضدنا, وجندت وعاظ السلاطين لحملات التضليل والتلفيق والافتراء, وبحثت عن الشهرة السريعة في مزابل الولاءات المطلقة للغرب, فاتخذت من كهنة البيت الأبيض أولياء لها تلقي إليهم بالمودة, وتسر إليهم بنجواها, فتناجيهم ويناجونها, ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الله, وهكذا تحول القزم المذعور القابع في قمقم الدوحة إلى مارد جبار, فتطاول على القيم الدينية, وتمرد على الروابط القومية, وانشغل بتقطيع ما أمر الله به أن يوصل, فصار ليثا أمام الغزاة يضيف الرياح القوية للمهزلة. . لقد استلت قطر مخالب الخطر, ومدت أذرعها الأميبية المتباهية بأجنحة القاصفات والراجمات, المتفاخرة بزعانف الفرقاطات والغواصات والحاملات المتجحفلة على أرضها في القواعد المجانية, التي منحتها لقوى البغي والعدوان في (معسكر سنوبي) وفي قواعد (العديد), و(السيلية), فعرفها القاصي والداني بطغيانها الذي لا يتوافق ولا يتطابق مع حجمها الصغير, وتاريخها القصير, وشعبها الطيب الودود المسالم, حتى صارت عنواناً دامياً من عناوين التدخلات السافرة في شؤون البلدان العربية والإسلامية, وأصبحت حديث الصحافة العالمية بمواقفها العجيبة, وتحركاتها المريبة, فجاء هذا الكتاب الفرنسي ليرسم صورتها المخيفة على جدران التحليل السياسي المحايد. .
من هنا كانت البداية عمل الصحفيان الفرنسيان (كريستيان شينو), و(جورج مالبرونو) في خطين متوازيين ضمن مجالات الحقل الإعلامي, عمل الأول لراديو فرنسا, وعمل الثاني لجريدة الفيغارو, قضيا في العراق (124) يوماً في الأسر, وكان معهما في قبضة الخاطفين سائقهما (محمد الجندي), فكتبا قصتهما المروعة, وصدر لهما عن دار (عويدات) في بيروت كتاب بعنوان (مذكرات رهينتين) عام 2005, نقله إلى العربية (حسين حيدر), و(جوزيف منصور). .
فخرجا من محنتهما بتصورات وقناعات جديدة, تعرفا عليها عن كثب خلف كواليس السيرك السياسي, فسجلا انفعالاتهما واكتشافاتهما وهما يواجهان مصيرا مجهولاً, فتكورت نقطة البداية من خبايا الدهاليز السياسية المظلمة, وأسرارها الغامضة, في الوقت الذي كانت فيه قطر تخطو خطواتها المتعثرة الأولى في عوالم التدليس والمداهنة والمراوغة, فتركت بصماتها فوق صفيح الصهاريج الممتلئة بالأموال الرخيصة المصروفة على مشاريع التآمر علينا وعلى أشقائنا وجيراننا. .
تبذير وإسراف وتخبط لم تكن قطر تشبه السعودية في توظيفها لأموالها, ولا تشبه الكويت, ولا الإمارات, ولا غيرها من البلدان العربية, التي استثمرت خيرات العوائد النفطية في مشاريعها الإنمائية والاستثمارية, ووظفتها أحسن توظيف في الخطط التطويرية المدروسة. . ولسنا مغالين إذا قلنا إن تنظيم قطر لتصفيات كأس العالم لكرة القدم سيكون من أحرج الكبوات التي ستكسر عنق هذه الدويلة الباحثة عن العظمة بأي ثمن, فما حاجة الدوحة لهذه التصفيات ؟, وما الداعي لاستقبال الملايين من مثيري الشغب بقمصانهم الخليعة, وهم يمسكون زجاجات الخمر ؟. وما هو المبرر لإنفاق أكثر من (55) مليار دولار على مبان ومرافق سياحية, ومجمعات فندقية لن تستخدم إلا لمدة شهر واحد أو أقل عند استضافتها لمونديال 2022, وستفقد بريقها بعد تبخر المونديال ؟. .
ألا يحق لنا أن نتساءل عن دواعي حمى الإسراف في الخارج, مثال على ذلك نذكر إن قطر أنفقت (100) مليون يورو للإعلان عن خطوطها الجوية على فانلات فريق برشلونة ؟, وأنفقت ثروة طائلة على مؤسسة مشبوهة, هي مؤسسة (راند Rand) الأمريكية, تعاقدت معها وأناطت بها مهمة الإشراف التربوي على تعليم الناشئة في مدارسها ومعاهدها وجامعاتها, ووصل بها الهوس العقاري إلى صرف (41) مليار دولار لتنفيذ مشروع جزيرة اللؤلؤة وملحقاتها, في الوقت الذي تشهد فيه المنطقة تراجعاً شديداً في مؤشرات أسواق القطاع العقاري, وما إلى ذلك من الأمثلة الكثيرة التي تؤكد غرق قطر في مستنقعات التبذير والإسراف المفرط على مشاريع خرافية, أقل ما يقال عنها إنها عبارة عن محاولات فاشلة للبحث عن الأمجاد الزائفة في جبهات المعارك الخاسرة. .
إعلان الحرب على العرب يتطرق المؤلفان في كتابهما (قطر خزينة الأسرار) إلى الحروب الطاحنة, التي خاضتها أو افتعلتها قطر ضد البلدان العربية, ويتحدثان بإسهاب عن تورطها بتمويل الحرب المعلنة ضد ليبيا, والتي أسفرت عن إسقاط نظام القذافي, وتدخلها الصريح في شؤون العواصم العربية الأخرى, وتطوعها لتمويل الحروب الخفية ضد سوريا بقصد إسقاط نظام الأسد. . يصور الكاتبان كيف أصبح (حمد) مهووساً بتدمير سوريا, والأساليب التي لجأ إليها حتى الآن في خوض معركته الشخصية ضد بشار, مع علمه المسبق انه لو نجا الأسد فإن قطر ستدفع الثمن غالياً, وهذا يفسر إصراره العجيب على توظيف آخر دولار في خزينته من أجل إحراق سوريا برمتها, وضمها إلى قائمة البلدان العربية, التي اكتسحها تسونامي التدمير الشامل في معارك الربيع الخريفية, فأصبحت على بعد بضعة أعوام من مشاريع التقسيم والتجزئة. .
يرجح الكاتبان احتمال اهتزاز التوازن في الدوحة نفسها, وانهيار نظامها المتخبط إذا امتدت الأزمة السورية إلى ما بعد عام 2013, ذلك أن ثمة صراع خفي يدور الآن في أروقة البلاط الأميري بين الفوهرر حمد بن جاسم بن جبر, وولي العهد الشيخ تميم بن حمد, الذي يختلف عنه تماما في تنفيذ خطط الإطاحة بالأنظمة العربية. .
صور من المعركة كشف الكتاب عن تحركات قطر في صيف 2012 لتسليح المعارضة السورية, وتواجد جيوبها العسكرية عند خطوط التماس مع المحاور القتالية القريبة من الحدود السورية, بيد أن محاولاتها تلك باءت بالفشل الذريع, إلا إنها حققت نجاحاً طفيفاً في بعض الثغرات, وبات من المؤكد إنها دخلت منذ صيف 2012 في غرفة العمليات الحربية المناوئة للعرب, واشتركت بإرسال شحنات كبيرة من العبوات الناسفة, والقاذفات المضادة للدروع, وأسلحة حرب الشوارع إلى ليبيا ومالي وسوريا والسودان والعراق. . من المفارقات المثيرة للسخرية إن الفلول التابعة لقطر تسللت إلى الأرض العربية في أكثر من بلد, ودخلت في مواجهات مسلحة مع بعض الفلول التابعة لبعض الأقطار العربية الأخرى المنتفعة من تداعيات الإرباك الأمني الذي خلفته عواصف الربيع البترولي, وكان من الطبيعي أن تندلع مثل هذه المواجهات الساخنة بين المجموعة (X) التابعة لقطر, والمجموعة (Y) المنفلتة من فوهات البراكين الداخلية, وأحيانا يحدث الانشطار والانشقاق من داخل المجموعة الواحدة, سواء من داخل (X), أو من داخل (Y). . دأب القطريون على توجيه ميليشياتهم بالرموت كونترول, فتراهم يصدرون أوامرهم لقادة فصائلهم القتالية لافتعال الأزمات الطائفية, فإذا رفض أحد القادة الانصياع للأوامر, تحرك ضابط الارتباط القطري, وفتح نافذة سرية للتحاور المباشر مع نائب ذلك القائد, فيغريه بالمال ويشجعه على تشكيل مجموعة جديدة منفصلة عن المجامع القديمة المنشقة, فكان الشقاق والانشقاق من شيمة الفلول المتورطة بتنفيذ المقاولات القتالية المتفجرة في جبهات المدن العربية الخاضعة لموجات الفتوحات القطرية. .
القتال من أجل نشر الخراب بات من المؤكد إن قطر لا تحارب لوجه الله, فلا هي تحارب من أجل تحرير الشعوب من قبضة الأنظمة المستبدة حسبما تزعم, ولا هي تسعى لنشر القيم والمبادئ الثورية السامية التي تتشدق بها قناة الجزيرة, فهي في حقيقة الأمر مجرد واجهة مبتكرة لتنفيذ المؤامرات الدولية, والاستيلاء على المدن العربية, وإخضاعها للهيمنة الأجنبية بطرق غير مطروقة, وربما كان شراء الذمم بعائدات النفط والغاز من أولويات التعامل السياسي الدولي, الذي سلكته قطر في تجيير المواقف لصالحها ولصالح من تعمل لحسابهم, فجاءت محاولتها المكشوفة لشراء الفيتو الروسي في الأمم المتحدة لتضع النقاط على الحروف الغامضة, ناهيك عن خفايا علاقاتها المالية المريبة في فرنسا وشقيقاتها في الاتحاد الأوربي. .
تميل قطر أحياناً إلى التمرد حتى على من تعمل لحسابهم, وبهذا الصدد يسرد المؤلفان الفرنسيان الحادثة, التي أصيبت فيها فرنسا بالذعر عندما علمت بتسرب السلاح القطري عبر السودان إلى بعض المليشيات الليبية المتطرفة الخارجة عن طوع القيادة المركزية لقوات المجلس الليبي الانتقالي, فاللعب مع الكبار من هوايات الرايخ القطري. .
حيادية الخناجر المسمومة يشير المؤلفان في نهاية كتابهما إلى فقدان قناة (الجزيرة) القطرية لحياديتها, وسقوط شعارها (الرأي والرأي الآخر) بسبب إمعانها في الترويج الإعلامي الأحادي, وانحيازها التام لقطب واحد من أقطاب الصراع, ووقوعها في فخ العلاقات الحميمة المشبوهة مع قادة الخلايا الإرهابية المنتشرة في المناطق العربية والإسلامية الساخنة, وانسياقها مع حملات التضليل الإعلامي لصالح قوى الشر في حروبها العدوانية المعلنة ضد العراق وأفغانستان وليبيا والسودان وغزة والصومال, ما أدى إلى تزايد الانتقادات الشعبية العربية الموجهة ضد الحكومة القطرية. .
قطر في خطر يتفق الكاتبان تماما مع ما ذهب إليه الدكتور سعد سليمان الدليمي بمقالته التحليلية, التي كتبها قبل أكثر من عامين, وحملت عنوان (قطر في خطر), بأن النظام القطري لم يعد يعي خطر المؤامرات التي يحيكها في السر والعلن ضد العرب, وأن الجسد القطري الهزيل استعار عضلات من هو أقوى منه من أجل الانتقام من كل من يتفوق عليه من العرب, فرضخ لأعداء الأمة العربية, وركع تحت أقدامهم, ورفع صوته بالعويل والبكاء عند حائط المبكى, وهذا هو سر كراهية الشعب العربي للنظام القطري المتباهي بعضلات غيره, وأصبح الناس في قطر يدركون حجم الأخطار المحدقة بهم, ويشعرون إن ساعة الدوحة باتت وشيكة الوقوع في أي لحظة, وإنها ستتحول إلى ساحة لتصفية الحسابات لكل الذين تآمرت عليهم, ويرى البعض ان قطر قامرت بمستقبلها, ووضعت ثرواتها المالية في جيوب أعداء العرب, فخسرت نفسها, وخسرت جيرانها, وضحت بكل ما تملك عندما اختارت الزحف خلف غربان الشر. . والله يستر من الجايات.
عرض لكتاب جديد صدر باللغة الفرنسية عن دار ميشال لافون بعنوان (قطر خزينة الأسرار) (Qatar: Les secrets due coffer-frot) ولدت فكرة الكتاب بعد تحقيقات مطولة قام بها الكاتبان الفرنسيان (جورج مالبرونو Georges Malbrunot) وزميله (كريستيان شينو Christian Chesnot) في إطار بحثهما عن الأسباب التي ساعدت على تحريرهما من العراق, حيث احتجزا كرهينتين عام 2004 يزيح الكاتبان النقاب عن كم هائل من خبايا الدسائس والمؤامرات التي اضطلعت بها قطر |