محمد باقر الصدر.... وريمون !

 

كنت ، مع صديق آخر ، في بيت البروفسور  "ريمون نجيب شكورّي" ،  نودّعه بعد ان حصل على عقد مع الجامعة الاردنية ،عام 1996 .  كّنا في غرفة مكتبته ، وكان قد عرض ان نأخذ منها ، ما نشاء ، نحن فئران الكتب التي لا تشبع ، على حد تعبير كازنتزاكي ، قبل ان يصفّيها استعدادا للرحيل . اخذت كتابين ثم وقع في يديّ ثالث ،مجلّد ، فتحته لمعرفة عنوانه ، فالفيته " اقتصادنا " للشهيد محمد باقر الصدر ، قلت موجها كلامي لدكتور ريمون ، "...وهذا سآخذه ايضا ، فلم تتسن لي قراءته في حينه..." ، اجابني د. ريمون بابتسامته الودودة : " هذا لا ... هذا ساحتفظ به لي بين بضعة كتب  ".  ...تطلعت اليه بعينّي متسائلا ، فأخذ الكتاب وفتحه على الصفحة الاولى ، ليريني اهداءا موجّها اليه بخط المرحوم السيد محمد باقر الصدر . لا اتذكر ، الان ، فيما اذا كان نصّ الاهداء يخاطب السيد ريمون بالاخ او الصديق العزيز ، لكنه كان اهداءا حميما ، نمّ ، ربما ، عن معرفة شخصية ، او ، على الاقل ، علاقة تعاطي و تواصل  فكري او رغبة فيها . مايهمّني من الواقعة ، اضافة الى ماتشير اليه ، بقّوة ووضوح ، من سعة افق المرحوم الصدر ، الفذة ،وتواصله الحميم مع العراقي ، الاخر ، المختلف ، هو سر اعتزاز "د.   ريمون شكوّري "بتلك النسخة  رغم ان الاحتفاظ بها كان ، مايزال ، حتى ذلك الوقت ،، يمثل  خطرا او بعض الخطر او ربما جر ّ على حائزها متاعب وشبهات ، على اقل تقدير ، هو في غنى عنها تماما ، خصوصا ، بالنسبة لشخص ،اكاديمي ، مختص ، واكثر من هذا ، مسيحي ، مثل د. شكوّري !

لا ريب ان السيد "شكوّري " لم يحتفظ بالكتاب لمادته العلمّية ، التي كان مضمونها ومحاورها ،  تنتمي الى تيار فكري  اصبح معروفا ، وهو ،على  اية حال ، ليس من اختصاص السيد شكوّري ولا قريبا منه ، ولا اعتزازا بالاهداء الشخصي وحده ، لان بعض ما اخذنا من كتب كانت تتضمن  اهداءات شخصية من مؤلفيها . لكن الأكيد، حسب ما اعتقد  ، ان الكتاب ، بالاهداء الشخصي الذي يوّشحه ، كان قد اكتسب معنى عزيزا على قلب الرجل ، معنى ينتمي الى المواجهة والبطولة والتحدي ، تلك التي ، كنّا ، جميعا كعراقيين ، احوج مانكون اليها ، في تلك الايام السوداء !

واذكر ، ايضا ، واقعة اخرى ، مشابهه ، من حيث المضمون والدلالة : فقد زارني، في بيتي ، مهنئا بمناسبة ما  ، في احد الايام من عام 1999 ، آمر وحدتي  التي تسرحت منها ، قبل سنوات  ، العميد " ع ...". كان الرجل عضو شعبة او مرشحا لعضويتها في التنظيم العسكري لحزب البعث الذي كان منتميا اليه  منذ الستينات  . لكن تناغما ، روحيا ، نسج بيننا ، خلال عام من وجودي في تلك الوحده العسكرية ، عرى ودّ وصداقة  جعلت منه يغض النظر عن بعض ما عرفه عني ثم يتجاوزه الى التصريح  لي ببعض ما يعتمل في صدره من عواصف . كان صديقي ، من  الرمادي  ، اصلا ، ... جلسنا في صالة الاستقبال ، وكالعادة ، سرعان ما انتهى بنا الحديث الى الهّم الثقيل المشترك ، لكل العراقيين : الدكتاتورية والطغيان . الاسفاف في الجريمة والتخبط ، والافق الاسود الذي ينتظر العراق . لم يكن هذا النوع من الاحاديث يحمل اية خصوصية ، فقد كان سرا ذائعا ،بحق ، بين العراقيين ،جميعا ، فما ان يأمن احدهم الاخر حتى يبدأ هذا الحديث الذي كان ذو شجون لاتنتهي ابدا .   المّ بي الجزع او  الملل ، وداعبني الامل ، فعدت الى ما جرّبته سابقا ،وكاد يودي بحياتي .  قلت : يا "ابو فلان ، سننتهي ، بحديثنا هذا ، ان آجلا او عاجلا ، الى النهاية التي لابد منها ، النهاية ، الجديرة وحدها ، في ظرفنا هذا ، بالعمل : ضرورة التنظيم العسكري السري  لعمل ما يمكن عمله ، قبل ان تذهب دمائنا " بلاش " وتودي بنا الكلمات والكلمات فقط ، الى حتوفنا ، فهل انت مستعد ؟!

كان الشهيد ، محمد صادق الصدر  قد اغتيل قبل ايام ، وكان تلفزيون بغداد قد عرض برنامجا ملفقا حول الجريمة رمى فيها الاتهامات بشأنها  على حوزة النجف ورجالها ، وتضمن البرنامج الذي عرضه ، التلفزيون ، لقطات من صلوات الجمعة  التي كان يقيمها الشهيد واتباعه في مسجد الكوفة ، وفيها يردد لازمته الشهيرة " لا لا امريكا ... لا لا اسرائيل "......

فوجئت بصديقي ، يكوّر قبضته، ويلوّح بساعده ،  مجيبا على سؤالي ،هاتفا ، على ذات المنوال ، وبنفس النبرة وبصوت خفيض ، ولكنه عميق :" لا لا امريكا ... لا لا اسرائيل " !!  فهمت الاشارة والايجاز الشديد الذي عبّر به ، عما يراه مطلوبا آنذاك ، وعن طبيعة القوة والعمل اللذين يراهما مناسبين لمواجهة النظام  ، لكن ما ادهشني حقا، اكثر من غيره  ، ان يقتدي هذا الضابط ، البعثي ، والسني من غرب العراق ، بمحمد صادق الصدر ويرى فيه جوابا وامكانية للحل !

لم يكن صديقي هذا ، معنّيا ، بالتأكيد ، بفقه السيد محمد صادق الصدر ،    ولا بما افتى فيه من حل وحرمة ووجوب واستحباب ، مع  احترامي ، لمنجزه بهذا الشأن ، لكنه كان معنّيا ،  بكل تأكيد ، ببطولة  الشهيد ووطنيته  و تحّديه ثم مواجهته  بكفنه وقبضته وكلماته ، للنظام  وقوته الغاشمة!

وهذا الامر ، هو ذاته ، ما بلبل رجال الامن والحزب وهم يدبجون تقاريرهم السرية التي حارت في تفسير اقبال العشرات من الشيوعيين السابقين من مدن الثورة والشعله على صلاة جمعة الكوفة ، خلف الشهيد محمد صادق الصدر واطلاقهم اللحى واعتمادهم المسابح ومواضبتهم على الرحلات المكوكية الى الكوفة كل جمعه ؟! لقد كان العراقيون يبحثون عن المواجهة والبطولة ، والموت  مقابل ثمن ،  في قضية ، مواجهة ، حقيقية  ، ان صح التعبير ، لا الموت المجاني  ولا المتاهات التي لا تنفتح على درب ....

 

ورغم وجود امثلة ونماذج حالكة من التفكير والسلوك في مواجهة هذه الامثلة النّيرة ، بالطبع ، غير ان الوقائع  الحاسمه ، والكثير منها ، اثبتت وتثبت ، ان العراقيين ، جميعا ، شأنهم شأن شعوب وامم الارض كافة ، معنيون بتلبية حاجاتهم الحيّوية وامانيهم الوطنية، رغم كل حيّل وامكانات التضليل والتعمية  ، وانهم في هذا السبيل ، وامام قيادات  وقوى تتمثل فيها الوطنية والنزاهة والشجاعة والتضحية والعدالة ، لايتوقفون كثيرا عند الهوّية الطائفية او الانتماء الاثني . لقد عرّض الوف المتظاهرين ، العزّل، من سكنة مدينة الثورة ، بطابعها المعروف  ، صدورهم  العارية ، الاّ من الحب والحماس ، لرصاص الانقلابيين في شباط 1963، في سبيل نصرة " الزعّيم " الذي "رأوا " صورته في القمر ، حبا وهياما ، دون ان يتوقفوا كثيرا عند هويته الاثنية وانتماءه الطائفي ، واختلطت دماءهم بدماء ، ابن الاعظمية ،الشهيد "عبد الكريم الجدة" آمر الانضباط العسكري وقائد القّوة المكلفة بالدفاع عن مقر وزارة الدفاع ، يومها   ، والذي اكّد شهود عيان وبضمنهم الانقلابيين انفسهم ، انه قاتل بشراسة منقطعة ، حتى الموت، ورفض التسليم او الاستسلام  ، وقد وجدت عشرات جثث المهاجمين تحيط بموضعه قبل ان تدهمه بسرفتها دبابة مهاجمه ، وكذلك  قريبه ، الملازم الشاب " كنعان حداد "  ذلك الفتى ،الذي تشبه قصته افلام المغامرات  الرومانسية الغريبه ، فقد كان اعّد العدة للخروج في  سفرة للتنزه مع خطيبته ، وفي الطريق  سمع ببيان الانقلاب وادّعاء الانقلابيين بانهم يحاصرون وزارة الدفاع ، فاستدار بسيارته ليتزود بالسلاح ويدخل وزارة الدفاع مقاتلا وذائدا عن ثورة 14 تموز ،  وليقاتل ،باستماته ،جعلت الانقلابيين  في حيرة من امره ،حتى اسر واعدم في دار الاذاعة مع الزعيم عبد الكريم قاسم .

 تلك امثلة خلت ، من زمن الوطنية والنزاهة والرجولة ، نسوقها في زمن الاقزام وباعة الوطنية وخدم الاجندات الاقليمية والعالمية ، اولئك الذين يتمترسون بالطائفة خوفا من الوطن  العراقي الواحد، ويحتمون بالعرق هربا من الشعب العراقي  الموحد ، ويتناخون الى القبيلة بدلا عن النخوة الوطنية . مؤكدين، عن قراءة مترّوية للتاريخ  الحديث وتفّحص  متمعّن  لوقائعه ، لا عن عاطفة مشبّوبة  وهوى  بلا اساس   : ان العراقيين ، مهما علت طبول التزييف ، وتصّعدت حمّى التهويش والتضليل والاستعداء  ، مثلهم كمثل اي شعب آخر ، يدركون مصالحهم الجذرية الحقيقية ، ويمنحون ثقتهم ويمحضون ولائهم لمن يبرهن ، حقا وفعلا ، من خلال القول والفعل ، انه فوق الطائفة انتماءا ، واوسع من المذهب افقا ،  واكبر من العرق صلة ..