قراءة في كتاب (تاريخ التعذيب في الإسلام)

 

القِ نظرةً الى ماضيك ، و انت تشقُّ طريقك نحو المستقبل ، و لكن عليك ان تأخذ من هذا الماضي ما يساعدك على بناء الصورة التي تحلم بها . و في ماضي كل امة ما هو بنّاء و صالح للإمتداد مضيئا، و ماهو هدام قاذف في مهاوي التخلف و الهمجية .و التراث هو جزء من هذا الماضي ، و ينطبق عليه تماما ما تقدم من كلام ، و كان لنا من الكتّاب من تسلح بالعلم و النظرة الإيجابية الواثقة ، و هو يسلط الضوء على تفاصيله و احداثه و شخوصه ، و يبرز المضيء فيه ، و المعتم ، دون تحامل من موقف فكري مسبق ، او مناوئ . و من هؤلاء الكتاب كان لنا علمان كبيران ممن خاضوا في هذا المضمار ، و اولهما هو الدكتور حسين مروة في كتابه الشهير ( النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية) ، و الذي اغتالته يد الظلام الآثمة منتصف الثمانينات ، و كذلك الباحث و المفكر هادي العلوي في كتاباته ، و بحوثه الكثيرة ، و منها كتاب ( تاريخ التعذيب في الإسلام ) و الذي منع في معظم الدول العربية ، و كأن الرجل قد ابتدع هذا التعذيب من عندياته ، او اخترعه ، و لكنه في الواقع لم يفعل غير ان يتقصى ما ورد في كتب التاريخ و البحث المعتبرة في هذا الشأن ، ساردا و مبوّبا و عارضا. ومن خلال ما عرضه لنا في كتابه هذا ، يتضح لنا ، بأننا نمتلك ( تراثاعارما !! ) في التعذيب و اساليب هتك الإنسان و آدميته ، ما يفسر استمرار هذا الجانب من التراث المقيت ،في حياتنا السياسية و الإجتماعية المعاصرة ، و تجسده في اقبية التعذيب في دوائر ( الأمن و المخابرت ) و ( ورشها ) ، خصوصا في العراق و سوريا و مصر ، و المغرب …. . في البدء ، يعرف العلوي التعذيب على انه : العذاب و البسط و المثَلة ( اي التمثيل بالميت ) ، و في العراق ، دون غيره ، تستخدم مفردة ( البسط ) بمعنى الضرب ، عكس معنى الإنشراح في مصر و الشام ، و لكن يجب تعديتها بعلى ، و ليس الهاء ( بسطه ) . و في الجاهلية ، لم يكن التعذيب معروفا ، لتنافيه مع قيم البداوة . و لكن التجار كانوا يعمدون الى تعذيب عبيدهم ( بالتشميس ) اي عرضهم مقيدين تحت الشمس الحارة ، و اتُّبع هذا الأسلوب مع العبيد الذين انضموا الى الدعوة الإسلامية ، كما حصل مع عمار بن ياسر و بلال الحبشي .

و لكن بالتدرج من البداوة الى الحضارة ، و نشوء الدولة و تعقيد مؤسساتها و طلاقها البائن مع مُثل البداوة ، ظهرت و تعقدت اساليب التعذيب و تطورت . و اول صورة للتعذيب ، هو التعذيب الأخروي ،كما ورد في القرآن ، و يكون بالنار ، و شي الجلود . و لكن في الحياة العادية ، استُخدم الكيُّ و سقي الصديد ( القيح ) و سقي المُهل ( المعادن المصهورة ) و الخنق بجراب النورة ، اضافة الى الضرب بالآلات الحديدية و العصي .. و الخ . و التعذيب مورس لأسباب عديدة ، و ابرزها الأسباب السياسية ( حيث ان التعذيب السياسي موجه ضد الطبقات المنتجة ، لمصلحة الطبقات السائدة) ، ثم التعذيب من اجل اشاعة الخوف و الإرهاب ، و كذلك التعذيب لأسباب دينية او فكرية ، او التعذيب من اجل نزع الإعتراف في السرقات ، او معاقبة المتخلفين عن دفع الضرائب .. و غيرها . و اول من مارس التعذيب ، معاوية بن ابي سفيان ، حين اقام سلطته المطلقة ، ( رغم ان العرب لقاحيون ، اي يرفضون الخضوع للسلطة الإستبدادية ) ، و مارسه ضد العراقيين الموالين لعلي ، فولى المغيرة بن شُعبة ، الذي لم ينفع دهاؤه ، فعزله ، و عين زياد بن ابيه ، الذي شرّع منع التجوّل و القتل على الظن ، و قتل البريء لإخافة المذنب ( اتبع هذا نظاما صدام و الأسد) ، و قد اُعدِم الصحابي ( سمرة بن جندب ) والي زياد على البصرة ثمانيةَ آلاف انسان ، تطبيقا لمبدأ زياد ( القتل على التهمة ) ، كما اورد الطبري ، و كذلك اساليب قطع اللسان و صلم الآذان ( مارسها صدام ) . و لعمر بن عبد العزيز مقولة شهيرة ( تشبّهَ زيادُ بعمر ( التشدّد ) فأفرطَ ، و تشبّه الحجاجُ بزياد ، فأَهلَك ) . و لكن عمر لم يُعذِّب ، و كان يستخدم ( الدرّة ) و هي عصاة خفيفة ، يضرب بها المخالفين في الأسواق . اما الحجاج ، فقد انشأ سجن الديماس الشهير ، و مارس فيه التعذيب و الصلب . و فيه قُتل ميثم التمار صاحب علي .

و ممن عُذبوا و قُتلوا لأسباب فكرية ، ( غيلان الدمشقي ) ، لأنه قال بالقدر ، و قد اعدمه هشام بن عبد الملك ، و الذي عَذّب و اعدَم ايضا ، الداعيةَ الشيعي ( المغيرة بن سعيد العجلي ) ، و تم كذلك اعدام ( الجعد بن درهم ) على يد والي هشام خالد القسري ، الذي ( ضحّى ) به في يوم العيد !! . و قد هدد القسري من يتناول الخليفة بالسوء ( يحجي على الرئيس !! ) ، بالإعدام في الحرم ( الذي لا تُقتل فيه حتى الحيوانات ) . اما العباسيون ، فقد واصلوا اساليب التعذيب ، فقَتَل ابو مسلم الخراساني ستمئة الف ، بينهم ( نساء و شيوخ و اطفال ) بأمر من ( ابراهيم الإمام ) زعيم الدعوة .

و المعارضون في زمن العباسيين ، هم انفسهم المعارضون في زمن الأمويين ، اي الشيعة ـ الإمامية و الزيدية ـ و الخوارج ، و ظهر ايضا المعتزلة و الإسماعيلية . و المنصور قام بدفن العلويين احياء ( فعلها صدام مع المنتفضين عليه مطلع التسعينات )، في منطقة الهاشمية في الحلة حاليا .

و القمعُ المنفلت لإسكات المعارضة هذا ، ادى الى ظهور معارضة متطرفة ، كالقرامطة مثلا .

و السلطة صارت تطلب لذاتها ، بما توفره من مزايا ، بما يقتضي التصدي لتعذيب و صدّ المناوئين و الطامعين . و لكن التعذيب تطور ليصبح عُصابا ، او جزءا من السلوك اليومي للحاكم ، كما تبدى لدى نيرون و هتلر و صدام . و من مقتضيات التعذيب ، اقامة الحدود ، كجلد السكران ، و قطع يد السارق و رجم الزانية . وقد مورس التعذيب من اجل جباية الضرائب ، لإثراء السلطة و الحاكم . فخطب ابو حمزة الخارجي ( المعارض ) في جمهرة من الناس ، ذاكرا ان الخليفة الأموي لبسَ بُردين ، اُخذت اموال حياكتهما من الناس ( الف دينار ! ) . و قد كان تعذيب المختلسين من اموال الخراج شائعا . و لدينا امثلة على تعذيب الجناة قبل قتلهم ، كما حدث مع عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي ، و كذلك تعذيب الخادم الذي قتل زعيم القرامطة ( ابو سعيد الجنابي ) قبل قتله .

و الأمويون هم اول من بدأوا ( المثلة ) بالميت ،رغم الأحاديث الكثيرة التي رويت عن نهي النبي عن المثلة . و اول رأس حُمِل ، هو رأس ( عمرو بن الحمق ) احد اتباع علي ، على يد زياد بن ابيه ، و بعده حمل رأس الحسين و اصحابه على يد عمر بن سعد بن ابي وقاص ، زمن يزيد بن معاوية . و قد خفّت هذه الظاهرة لدى العباسيين ، و لكنها ظهرت لدى الأندلسيين ، كما عند الحاكم الشاعر المعتمد بن عباد ، و كانت في قصره حديقة لزرع الرؤوس المقطوعة . و ( الدِرّة ) التي استخدمها عمر بن الخطاب لقرع المخالفين ، تطورت لدى عثمان بن عفان ، الى السوط و الجلد. و فيما بعد جُلِدَ مالك بن انس ، لإفتائه بأن البيعة للمنصور قد اُخذت بالإكراه . كما جُلد ابو حنيفة ، لرفضه العمل لدى حاكم الأمويين على العراق ، كما جُلِد بعد ذلك زمن المنصور لمناصرته العلويين . و من اساليب التعذيب ، تقطيعُ الأوصال ، كقطع اليدين و الرجلين و اللسان ، و صلم الآذان و جدع الأنف و جَبّ المذاكير ( الأعضاء التناسلية ! ) . و كان هناك القتل بسلخ الجلد ثم حشوه تِبنا ، و عرضه على الناس . و حدث هذا حين سلَخ السلاجقةُ جلدَ ( عبد الملك بن عطاش ) الإسماعيلي ، و كذلك ما حصل للفقيه الدمشقي ( ابو بكر النابلسي ) على يد المعز الفاطمي . وذُكِر ان الخليفة ابا بكر الصديق امر بحرق رجل مأبون (يؤتى من الخلف ) ، و امر قواده بحرق المرتدين ، و هذا ما فعله خالد بن الوليد ، و حين احتج الصحابة ، فال ابو بكر (لا اشيم سيفا سلّه الله على الكفار! ) . و كذلك الحرق و الشي بالنار ، و ادارةُ المُعذَّبِ كما يُدار الشواء ، و قد عُذب بهذه الطريقة احدُ قادة الزنج زمن المعتضد . و من الأساليب ايضا ، خلع الأضراس و تقطيع الأيدي قبل الصلب ، كما فُعِلَ مع القرمطي ( الحسين بن زكرويه ) في بغداد ، و الذي خاطب العراقيين المتجمهرين حوله ( يا قتلة الحسين !) و كُبِّرَ حين قطع رأسه ، كما كُبّرَ حين قُطعَ رأسُ الحسين . و من اساليب التعذيب ( الأدبي ) السقاية بالمُسهل ، حيث يُصاب مَن يُسقى بالإسهال ، و قصُّ الشَعر ، حيث ذكر ابن الجوزي ، انه تم في يوم واحد قصُّ جدائل عشرة آلاف فتى من المراهقين العابثين ، ( وهذا الأسلوب مارسه خير الله طلفاح ، خال صدام ، حين كان محافظا على بغداد ) . و كذلك الطواف بالشخص على ظهر حمار ، في الأسواق . و من طريف ما يَذكر الجاحظ في كتاب ( مفاخرة الجواري و الغلمان ) ـ و للجاحظ دكان في السوق يعتاش منه ـ ان جارية بغدادية ماجنة ، قُبضَ عليها و هي تجامع ( هي الفاعل ! ) مُخنثا بكنديج ( قضيب اصطناعي ) ، فأركبوها على حمار و طيف بها في اسواق بغداد ، و كانت تخاطب الرجال المتجمهرين حولها ( انكم تَ ….. ننا ، طيلة الدهر ، فلما نِ... نا واحدا منكم قتلتمونا!!!!) .