أبو طالب عليه السلام الصحابي المفترى عليه..!بقلم: الشهيد عزالدين سليم

 

 

 

 

 

 

لماذا أُتهم ابو طالب؟

من خلال الدراسة الفاحصة لسيرة ابي طالب عليه السلام، نجد أن هذا الرجل الصحابي الهاشمي الذي آوى ونصر، وثبّت بصموده أركان الاسلام، قد تعرّض لحملة عدوانية عنيفة، شملت سيرته في حياته وبعد مماته.

وقد شاركت في هذه الحملة العدوانية فئات سياسية، ومحدثون ورواة ومفسرون وقصاصون. فما هي دوافع هذه الحملة العدوانية؟

من خلال مطالعة لبصمات المخططين لهذه العملية ومنفذيها، نجد أن الحملة على أبي طالب عليه السلام هي جزء من الحملة على الرسالة والرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ووصيه علي بن أبي طالب عليه السلام، وقد جرت تاريخياً منذ بداية حكم بني أمية الذي ابتدأ بمعاوية بن أبي سفيان.

ودوافع ذلك التحرك الخبيث الذي بلوره معاوية، ونفذ الجزء الأكبر منه، تتلخص في مقاطع هذه الرواية، فقد حدّث مطرف عن والده المغيرة بن شعبة، فقال:

(دخلت مع أبي على معاوية، فكان ابي يأتيه، فيتحدث معه، ثم ينصرف أبي فيذكر معاوية وعقله، ويعجب بما يرى منه، إذ جاء ذات ليلة فأمسك من العشاء، ورأيته مغتماً فانتظرته ساعة، وظننته أنه لأمر حدث فينا، فقلت: مالي أراك مغتماً منذ الليلة؟ فقال لي: يا بني، جئت من عند أكفر الناس وأخبثهم. قلت: وما ذاك؟ قال: قلت له وقد خلوتُ به: إنك قد بلغت سناً يا أمير المؤمنين، فلو اظهرت عدلاً، وبسطت خيراً، فإنك قد كبرت، ولو نظرت إلى اخوتك من بني هاشم، فوصلت أرحامهم، فوالله ما عندهم اليوم شيء تخافه، وإن ذلك مما يبقى لك ذكره وثوابه، فقال هيهات هيهات! أي ذكر ترجو بقاءه؟ ملك اخو تيم فعدل وفعل ما فعل، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلا أن يقول قائل: أبو بكر، ثم ملك أخو عدي، فاجتهد وشمّر عشر سنين، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره إلا أن يقول قائل: عمر، وإن أبن أبي كبشة(1) ليصاح به كل يوم خمس مرات أشهد أن محمداً رسول الله فأي عمل يبقى، وأي ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك! لأمر الله إلا دفناً دفناً)(2).

وقد بدأ تنفيذ هذا المخطط الوصولي الاسود من خلال خطوات عملية مجرمة، اعتمدها معاوية بن ابي سفيان من أجل تنفيذ مشروعه الخطير ذاك.

ونذكر بعض ملامح الخطوات التنفيذية المراد منها تحقيق عموم المخطط الاسود، الذي كان يهدف معاوية من ورائه أساساً إلى دفن ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما كشف ذلك السر المكتوم لرفيق دربه المغيرة بن شعبة في غفلة منه.

وحيث إنه لم يكن بوسعه أن يحقق طموحه الخبيث دفعة واحدة، فليحقق ما يمكن تحقيقه إذن.

وهكذا كرس عشرات الآلاف من منابر الجمعة لتعلن أمام المسلمين لعن علي بن أبي طالب عليه السلام، والبراءة منه، وثلبه بمختلف الطعون، وهكذا شن معاوية حملة لتزوير حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فغيَّر ما غيَّر، وبدَّل ما بدَّل، وأحدث على يد حفنة ممن يستأكلون بالدين، من أمثال: سمرة بن جندب، وعمرو بن العاص، وأبي هريرة الدوسي، وعروة بن الزبير وغيرهم، لوضع ما يحلو لمعاوية من حديث على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهذه مفردات تفصيلية لتنفيذ مشروع معاوية كما حفظها تاريخ تلك الحقبة السوداء من تاريخ المسلمين.

روى أبو الحسن علي بن محمد بن ابي سيف المدائني في كتاب الا حداث قال: (كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة(3) أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته فقامت الخطباء في كل كورة، وعلى كل منبر، يلعنون علياً ويبرؤون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته، وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة، لكثرة من بها من شيعة علي عليه السلام، فاستعمل عليهم زياد بن سمية، وضم إليه البصرة، فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف، لأنه كان منهم ايام علي عليه السلام، فقتلهم تحت كل حجر ومدر، وأخافهم، وقطع الايدي والارجل، وسمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل، وطردهم وشردهم عن العراق، فلم يبقَ بها معروف منهم، وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق ألاّ يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة.

وكتب اليهم أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل ولايته، والذين يروون فضائله ومناقبه، فأدنوا مجالسهم وقربوهم وأكرموهم، واكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم، واسمه واسم ابيه وعشيرته.

ففعلوا ذلك حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه، لما كان يبعثه اليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطائع، ويفيضه في العرب منهم والموالي، فكثر ذلك في كل مصر، وتنافسوا في المنازل والدنيا، فليس يجيء أحد مردود من الناس عاملاً من عمال معاوية، فيروي في عثمان أو منقبة، إلا كتب اسمه وقربه وشفعه، فلبثوا بذلك حيناً.

ثم كتب إلى عماله أن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر وفي كل وجه وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة الخلفاء الاولين، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا وتأتوني بمناقض له في الصحابة، فإن هذا أحبّ إليّ وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته، وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضله.

فقرئت كتبه على الناس، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها، وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى، حتى اشتدوا بذكر ذلك على المنابر، والقي إلى معلمي الكتاتيب فعلموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع، حتى رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن، وحتى علّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم فلبثوا بذلك ما شاء الله.

ثم كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان: انظروا من قامت عليه البيّنة أنه يحب عليّاً وأهل بيته، فامحوه من الديوان، واسقطوا عطاءه ورزقه. وشفع ذلك بنسخة اخرى: من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم، فنكلوا به، واهدموا داره.

فلم يكن البلاء اشد ولا أكثر منه بالعراق، ولا سيما بالكوفة، حتى إن الرجل من شيعة علي عليه السلام ليأتيه من يثق به، فيدخل بيته، فيلقي إليه سره، ويخاف من خادمه ومملوكه، ولا يحدثه حتى يأخذ عليه الايمان الغليظة، ليتمكن عليه، فظهر حديث كثير موضوع، وبهتان منتشر، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاء والولاة، وكان اعظم الناس في ذلك بلية القراء المراءون والمستضعفون، الذين يظهرون الخشوع والنسك، فيفتعلون الاحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم، ويقربوا مجالسهم، ويصيبوا به الاموال والضياع والمنازل، حتى انتقلت تلك الاخبار والاحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب والبهتان، فقبلوها ورووها، وهم يظنون أنها حق، ولو علموا أنها باطل لما رووها ولا تدينوا بها.

فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي عليه السلام، فازداد البلاء والفتنة، فلم يبقَ أحد من هذا القبيل إلا وهو خائف على دمه، أو طريد في الارض.

ثم تفاقم الأمر بعد قتل الحسين عليه السلام، وولي عبد الملك بن مروان، فاشتد على الشيعة، وولي عليهم الحجاج بن يوسف الثقفي، فتقرب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببغض علي وموالاة أعدائه وموالاة من يدعي من الناس أنهم أيضاً اعداؤه، فأكثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم، واكثروا من الغض من علي عليه السلام وعيبه، والطعن فيه، والشنآن له، حتى إن إنساناً وقف للحجاج ـ ويقال إنه جد الاصمعي عبد الملك بن قريب ـ فصاح به: أيها الأمير، إن أهلي عقّوني فسموني علياً، وإني فقير بائس، وأنا إلى صلة الامير محتاج. فتضاحك له الحجاج، وقال: للطف ما توسلت به قد وليتك موضع كذا.

وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه ـ وهو من أكابر المحدثين وأعلامهم ـ في تاريخه ما يناسب هذا الخبر، وقال: إن أكثر الاحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أمية، تقرباً اليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم(4).

فمن خلال هذه الوثائق التاريخية التي تقطر ظلماً وعدواناً، يتضح لك عمق التخريب الذي لحق بالثقافة العامة للأمة، ومخاطر هذا التخريب الذي امتد لعموم الناس، ومختلف مصادر التثقيف والتوجيه، خصوصا المحدّثين والرواة، وكان شأنهم يومئذ عظيماً؛ إذ كانوا يومذاك مصدر الهام الامة وقاعدة التوجيه فيها.

وهكذا نشأت معلومات ووضعت أفكار وتصورات لا أساس لها من الصحة، وصيغت ثقافات وقيم لا وجود لها في دين أو واقع، وكان كثير من تلك المعلومات والافكار قد افتري بها على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لتأخذ بعداً مقدساً عند الناس، وتكون ديناً يدين به الخلق.

وإذا اعدنا إلى الاذهان أن السنّة الشريفة قد صدرت قرارات من الخلفاء، تمنع من نشرها تدوينها منذ الأيام الاولى لخلافة أبي بكر، حتى خلافة عمر بن عبد العزيز، الأمر الذي أعطى فرصاً كافية جداً لصياغة سنة ما أنزل الله تعالى بها من سلطان، وافتعال اخبار واحاديث لم يتفوه بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الاطلاق، حتى إذا اطلقت يد التدوين للسنة في عصر عمر بن عبد العزيز، دونت الاخبار والاحاديث التي رعتها سياسة الخلفاء، واصرت على اشاعتها بالترغيب والترهيب.

أقول: إذا اعدنا إلى الاذهان هذه الحقائق، تتجلى أمامنا ضخامة الجريمة الثقافية والعلمية التي ارتكبت بحق هذا الدين، وحجم التشويه الذي تعرضت له آثار النبوة. على أننا في المقابل قد ندرك أهمية المعلومات الايجابية التي بقي التاريخ محتفظاً بها عن أهل البيت عليهم السلام، رغم ضخامة المؤامرة وحجم الارهاب الذي صبه الحكام الظالمون، على حملة ا لحق ومصادر النور في هذه الامة.

فرواية حديث في فضل أهل البيت عليهم السلام، كان يسوق صاحبه إلى الموت وهدم الدار وتشتيت الاسرة بواسطة الحكام والولاة، إذا بلغتهم وشاية حول هذا الموضوع من صبي مغرر به، أو خادم مخدوع، أو امرأة حمقى.

لقد كان أبو طالب ـ باعتباره سيد بني هاشم، وناصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووالد علي عليه السلام ـ أولى بتوجيه السهام نحوه، في المخطط الكبير الذي صممته حكومة الطلقاء في الشام، ونفذته مؤسسات اعلامية رواة ومؤرخون ومنابر مختلفة، في دولة تمتد من المحيط إلى المحيط.

وقد اهتمت سياسة بني أمية بتكريس النقاط التالية بشأن أبي طالب:

1 ـ التأكيد بمختلف الوسائل على أنه لم يسلم وقد مات مشركاً.

2 ـ ابتداع أحاديث ونسبتها للرسول صلى الله عليه وآله وسلم تؤكد على كفر أبي طالب.

3 ـ الاستعانة ببعض الآيات النازلة في الكفار، وتزييف أسباب نزولها، لتكون مختصة بأبي طالب.

إلى غير ذلك من صور التضليل والخداع.

ولنذكر أمثلة مما ابتدعه بنو أمية والمستأكلين بالدين من عملائهم.

قال تعالى: (وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون)(5).

أخرج بعض من المفسرين عن سفيان الثوري عمن ذكره، أن هذه الآية نزلت في ابي طالب؛ لأنه كان ينهى عن ايذاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنه ينأى عن دخول الاسلام.

وقد أخرج هذه الرواية وامثالها الطبري في تاريخه وغيره، فقد أخرج الطبري وغيره من طريق سفيان الثوري عن حبيب بن ابي ثابت عمن سمع من ابن عباس قال: إنها نزلت في ابي طالب. ينهى عن اذى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يؤذى، وينأى أن يدخل الاسلام(6).

وقال القرطبي في تفسيره(7) حول هذه الآية ما يلي: (هو عام في جميع الكفار، أي ينهون عن اتباع محمد صلى الله عليه وآله وسلم وينأون عنه، عن ابن عباس والحسن، وقيل: هو خاص بأبي طالب ينهى الكفار عن اذاية محمد عليه السلام، ويتباعد من الايمان به، عن ابن عباس أيضاً. روى أهل السير قالوا: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد خرج إلى الكعبة يوماً واراد أن يصلي، فلما دخل في الصلاة قال أبو جهل (لعنه الله): من يقوم إلى هذا الرجل فيفسد عليه صلاته؟ فقام ابن الزبعرى فأخذ فرثاً ودماً فلطخ به وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فانفتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من صلاته، ثم أتى أبا طالب عمه: فقال: يا عم، ألا ترى إلى ما فعل بي؟ فقال أبو طالب: من فعل هذا بك؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: عبد الله بن الزبعري، فقام أبو طالب ووضع سيفه على عاتقه ومشى معه حتى أتى القوم، فلما رأوا أبا طالب قد أقبل جعل القوم ينهضون، فقال ابو طالب: والله لئن قام رجل لجللته بسيفي، فقعدوا حتى دنا اليهم، فقال: يا بني، من الفاعل بك هذا؟ فقال: عبد الله بن الزبعري. فأخذ أبو طالب فرثاً ودماً فلطخح به وجوههم ولحاهم وثيابهم واساء لهم القول، فنزلت هذه الآية: (وهم ينهون عنه وينأون عنه) فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا عم، نزلت فيك آية. قال: وما هي؟ قال تمنع قريشاً أن تؤذيني، وتأبى أن تؤمن بي. فقال أبو طالب:

والله لن يصلوا اليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا

فقالوا: يا رسول الله، هل تنفع نصرة أبي طالب؟ قال: نعم. دفع عنه بذاك الغل، ولم يقرن مع الشياطين، ولم يدخل في جب الحيات والعقارب. إنما عذابه في نعلين من نار يغلي منهما دماغه في رأسه، وذلك أهون أهل النار عذاباً))(8).

وتجدر الاشارة هنا أن نزول الآية المذكورة في أبي طالب عليه السلام لا يمتلك رصيداً من الواقع، وذلك لعدة اعتبارات علمية وقانونية، نذكر منها:

1 ـ عدم انطباق الشروط العلمية على سند الرواية، وذلك لعدة وجوه:

أ ـ أن الرواية مجهولة السند بين حبيب بن ابي ثابت وابن عباس، كما رأينا، وهي بهذا لا تفيد علماً ولا عملاً، كما اتفق على ذلك علماء المسلمين وائمتهم عبر العصور.

ب ـ أن حبيب بن ابي ثابت انفرد في هذه الرواية دون غيره. وقد عرف العلماء أنهم لا يركنون إلى الاعتماد على نمط من هذه الروايات.

ج ـ أن حبيباً الراوي قد شهد أهل العلم بعدم جواز الاعتماد عليه؛ لأنه كان مدلِساً كما قال حبّان، والعقيلي يقول عنه: (غمزة ابن عون، وله عن عطاء احاديث لا يتابع عليها)، وقال ابن خزيمة: (كان مدلّساً)(9).

د ـ أن وجود سفيان الثوري في سند الرواية دليل آخر على تهافتها، فقد وصفه العلماء بالتدليس وأنه يكتب عن الكذابين(10).

2 ـ أن ما ثبت عن عبد الله بن العباس حول سبب نزول هذه الآية بعدة طرق، يناقض ما زعمه سفيان الثوري وحبيب في الرواية التي ذكرناها سابقاً، فقد روى الطبري في تفسيره، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، من طريق علي بن أبي طلحة، وطريق العوفي، أن الآية نزلت في المشركين الذين كانوا ينهون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يؤمنوا به، وينأون عنه: يتباعدون عنه(11).

وقد اخرج ذلك الطبري، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وعبد بن حميد، من طريق وكيع عن سالم، عن أبي الحنفية، وعن الحسين بن الفرج، عن أبي معاذ، ومن طريق بشر عن قتادة.

وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن ابي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، والسدي، والضحاك، ومن طريق أبي نجيح عن مجاهد، ومن يونس عن ابن زيد قالوا: (ينهون عن القرآن، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وينأون عنه: يتباعدون عنه)(12).

والمراد اساساً أنَّ الآية تتحدث عن قطاع الكفار الذين كانوا ينهون عن اتّباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن الكريم، وينأون عنه بالعداوة والصدود، فأين هذا عن مواقف ابي طالب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحاميه وناصره، والذاب عنه كل أذية وسوء ومكروه؟

هذا، ومما تجدر الاشارة إليه أن سورة الانعام نزلت جملة واحدة بعد سورة القصص بخمس سور، كما في اتقان السيوطي، وكان أبو طالب عند نزول سورة الانعام التي تحمل الآية المذكورة، قد رحل إلى ربه الأعلى قبل ذلك بعدة سنين فوفّاه ربه حسابه(13).

3 ـ أن سياق الآيات قبلها وبعدها يعطي انطباعاً واضحاً أن المقصود غير أبي طالب عليه السلام. قال تعالى: (ومنهم من يستمع اليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاؤوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا اساطير الأولين * وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا انفسهم وما يشعرون)(14).

فالآيات صريحة أن المراد بها كفار قريش، أو قطاع منهم جاؤوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فجادلوه، واتهموه، ووصفوا القرآن بالأساطير، ومنعوا عن اتباعه، فأين مدلول هذه الآيات من مواقف أبي طالب عليه السلام، الذي أمر العباس وحمزة وجعفراً باتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ودعا قريشاً وبني هاشم للتمسك بالنبوة؟ وهو الذي رأينا نماذج من أدبه الرسالي الفذ الذي جاء فيه:

ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً  رسولاً كموسى خط في أول الكتب

هذا، وقد تنبه علماء التفسير إلى تفاهة من يتصور أن الآية نزلت في أبي طالب عليه السلام، فأشاروا إلى أنها مختصة بالمشركين المكذبين الذين ينأون عن الحق، ويحولون بين الناس ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(15).

ومن الجدير ذكره أن مجموعة أخرى من الآيات فسرت في ابي طالب عليه السلام ظلماً وعدواناً، مع أنها نزلت في جماعة المشركين، من أمثال قوله تعالى: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أُولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم)(16). وقوله تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين)(17).

وهذه الآيات وغيرها إنما فسرها وعاظ البلاط الاموي في أبي طالب عليه السلام، ارضاء لحكام بني أمية، ووضعوا الاحاديث بحثاً عن المال والجاه، من أمثال أبي هريرة والمغيرة بن شعبة، وعروة، وسعيد بن المسيب، والزهري، وغيرهم ممن فسروا حتى آيات نزلت في المدينة المنورة، بعد وفاة أبي طالب بعدد من السنين، في ابي طالب عليه السلام(18).

لماذا كتم أبو طالب عبادته؟

حفظ تاريخ الرسالة الاسلامية المطهرة الكثير من مواقف الصمود والدفاع عن الدعوة الالهية، والرسول الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، التي وقفها أبو طالب عليه السلام، في اشد أيام الرسالة قسوة، وفي أكثر ساعاتها حرجاً كما اشرنا. يظهر ذلك جلياً من سيرته العملية مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن كلماته الباسلة، وشعره المقاوم الجريء.

بيد أن تاريخ الرسالة المطهرة لم يسجل حادثة واحدة حول اقامة أبي طالب عليه السلام للصلاة اليومية، التي كانت قد شرعت في مكة المكرمة دون غيرها من الفرائض، رغم أن كثيراً من كلمات الرجل كانت تقطر إيماناً واعتقاداً بالله واليوم الآخر والحساب والنبي صلى الله عليه وآله وسلم.

لقد حدثنا التاريخ عن صلاة علي بن أبي طالب عليه السلام، وخديجة بنت خويلد عليها السلام وجعفر بن ابي طالب عليه السلام، وحمزة بن عبد المطلب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بداية الدعوة، ولكنه لم يذكر مصداقاً واحداً عن هذا الموضوع يختص بأبي طالب عليه السلام، فلماذا كتم أبو طالب صلاته، بل اسلامه بشكل عملي؟

إن المتابع لمسيرة النبوة والدعوة الالهية الخاتمة، في تلك المرحلة المبكرة، يلاحظ أن الدعوة المباركة كانت بحاجة إلى عدة مقومات:

1 ـ الثقافة التي يمثلها القرآن الكريم بآياته النازلة، كما تمثل مقومها الآخر كلمات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واحاديثه.

2 ـ اللسان الناطق بها، المعبر عنها، المرغب فيها، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووسائله التعبيرية هو ذلك اللسان الناطق.

3 ـ الدعم المالي، وكانت ثروة خديجة عليها السلام أهم روافد ذلك الرصيد.

4 ـ الدعم الاجتماعي، وقد مثله ابو طالب عليه السلام بمالَه من زعامة وامتداد وتأثير اجتماعي كبير.

5 ـ وهناك مقومات أخرى بعضها معنوية وبعضها مادي.

لقد انبثقت الدعوة الالهية التي صدع بها محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مكة المكرمة، قلب الجزيرة العربية، وكانت الحالة القبلية والولاء للعشيرة ونظامها هي التي تحكم الجزيرة كلها، وكانت الكيانات القبلية ذات بعد سياسي واجتماعي في آن واحد، في الجزيرة العربية التي ضاقت بها فكرة القومية يومذاك، وعجزت عن اقامة كيان سياسي موحد، إلا إن التحالفات بين القبائل العربية، وقوة بعض الزعماء، وفرت حالة من التوازن بين الوحدات الاجتماعية يومذاك.

في هذا الوضع الاجتماعي بزغت شمس الدعوة المحمدية، وليس من باب الصدفة أن تجد الدعوة شخصية اجتماعية واسعة النفوذ في مكة وما حولها مثل أبي طالب عليه السلام، كما ليس من باب الصدفة أن تجد عمقاً عشائرياً داعماً لها يتمثل بعشيرة الداعية الاول للحق محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، تلك هي عشيرة بني هاشم.

ولولا هذا البعد الاجتماعي العميق، لما كان بوسع الدعوة أن تعلن حقيقة مبادئها ومفاهيمها، فضلاً عن أن تعلن مقاومتها للذهنية الوثنية الحاكمة في البلاد، ولكانت في أحسن أوضاعها تشبه تحركات الرهبان والاحناف، التي تبقى حبيسة في اطار محدود من الناس.

وحين صدع المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بدعوته، كان أبو طالب عليه السلام (سيد قريش غير مدافع، ورئيسها غير منازع، وكانوا له ينقادون، ولأمره يطيعون)(19)، وكان لأبي طالب عليه السلام حلفاء وانصار، اضافة لعشيرته الاقربين من بني هاشم.

ومن هنا رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبتخطيط منه دقيق، أن من الحكمة أن يحتفظ أبو طالب عليه السلام بهذه المكانة الاجتماعية، ويسخرها في الدفاع عن الدعوة والداعية صلى الله عليه وآله وسلم، وليس بمقدور أبي طالب عليه السلام أن يوظف مكانته الاجتماعية العظيمة للدعوة، إذا اعلن إسلامه، وجهر بإيمانه بالرسول والرسالة، وانحاز علانية إلى الدعوة، كما ليس بمقدور الدعوة الالهية المباركة أن تستثمر تلك المكانة الاجتماعية العظيمة، إذا هو جاهر بانتمائه للرسالة؛ لأنه في تلك الحالة ينابذ قريشاً كلها، ومكة وما حولها، فيكونون عليه يداً واحدة.

ومن أجل ذلك كان يخادعهم، ويتظاهر لهم بالمرونة، فكان يخالط قريشاً، ويعاشرها، ويشهد مشاهدها ومناسباتها، حفظاً على سيادته ومكانته فيهم، حتى يكون بمقدوره أن ينصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من هذا الموقع ويأخذ بحقه، ويوقف من يريد به السوء عند حده، حتى نجح في ذلك نجاحاً باهراً منقطع النظير، وهو مع ذلك يشوب علاقاته مع قريش، ومواقفه منها ومعها، باظهار تصديقه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته، وضرورة تصديقه والايمان به من قبل الناس بالطريقة التي يراها ممكنة، وغير مثيرة للخصم، وما ظهر من صور الايمان بالدعوة والرسول صلى الله عليه وآله وسلم وغيرها في ادبه ومواقفه، كانت في الاطار.

وهكذا نجحت مهمة أبي طالب عليه السلام في دعم مسيرة الرسالة، وحمايتها، وصد أعدائها، ولولا هذه الطريقة التي تبناها أبو طالب لرفد مسيرة النبوة، لما استثمرت الدعوة الالهية هذه الطاقة العظيمة بشكل مناسب.

ولعظمة المهمة التي اضطلع بها أبو طالب عليه السلام، وأهمية دوره المبارك، فإن الله عزّ وجل أوحى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاة أبي طالب عليه السلام، وأنبأه بواسطة جبريل عليه السلام، أنه ((قد مات ناصرك، فاخرج)) وأمره بالهجرة من مكة إلى المدينة.

ومن أجل ذلك فإنه من السذاجة واللؤم أن يسيء أحد الظن بأبي طالب عليه السلام بسبب سلوك اقتضته الحكمة، بينما نجد ـ رغم اساءة التاريخ وظلمه لأبي طالب ـ أن مصاديق إيمان ابي طالب عليه السلام برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته، مما لا يمكن تجاهلها، اضافة إلى مواقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منه، التي منها تغسيله، وتجهيزه، ودفنه.

ومنها ترحمه عليه، والاستغفار له، رغم أن الاسلام الحنيف لا يبيح الاستغفار للمشرك من قبل المؤمن، مهما كانت علاقته النسبية به.

ومنها ابقاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة بنت اسد عليها السلام في عصمة أبي طالب عليه السلام حتى وفاته، رغم أن الاسلام فسخ عقود النكاح بين المسلمات والمشركين.

فلا ندري، ألا يعني اتهام ابي طالب بالشرك والكفر من قبل بعض الجهلة بحقائق الأمور، اتهاماً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واساءة له؟

كلمات الصادقين عليهم السلام في تكريم أبي طالب عليه السلام:

1 ـ عن أمير المؤمنين قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هبط عليّ جبرئيل فقال لي: يا محمد، إن الله عزّ وجل مشفعك في ستة: بطن حملتك آمنة بنت وهب، وصلب أنزلك عبد الله بن عبد المطلب، وحجر كفلك أبو طالب، وبيت آواك عبد المطلب، وأخ كان لك في الجاهلية، وثدي أرضعك حليمة بنت أبي ذؤيب))(20).

2 ـ عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ما ترجو لأبي طالب؟ فقال: ((كل الخير أرجو من ربي عزّ وجلّ))(21).

3 ـ عن الامام السبط الحسن بن علي عن والده أمير المؤمنين، أنه كان جالساً في الرحبة والناس حوله، فقام إليه رجل فقال له: (يا أمير المؤمنين، إنك بالمكان الذي أنزلك الله، وأبوك معذب في النار. فقال له: ((مه فضّ الله فاك! والذي بعث محمداً بالحق نبياً، لو شفع أبي في كل مذنب على وجه الارض لشفعه الله. أأبي معذب في النار وابنه قسيم الجنة والنار؟ والذي بعث محمداً بالحق إن نور أبي طالب يوم القيامة ليطفئ أنوار الخلائق إلا خمسة أنوار: نور محمد ونور فاطمة ونور الحسن والحسين ونور ولده من الأئمة. ألا إن نوره من نورنا خلقه الله من قبل خلق آدم بألفي عام))(22).

4 ـ عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، قال: (قال علي عليه السلام: ((إن أبي حين حضره الموت شهده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأخبرني عنه بشيء خير لي من الدنيا وما فيها))(23).

5 ـ عن الامام السجاد زين العابدين علي بن الحسين بن علي عليهم السلام، أنه سئل عن أبي طالب: (أكان مؤمناً؟ فقال عليه السلام: ((نعم. فقيل له: إن ها هنا قوماً يزعمون أنه كافر. فقال عليه السلام: واعجباً كل العجب! أيطعنون على أبي طالب أو على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ وقد نهاه الله تعالى أن يقرّ مؤمنة مع كافر في غير آية من القرآن، ولا يشك أحد أن فاطمة بنت أسد رضي الله تعالى عنها من المؤمنات السابقات، فإنها لم تزل تحت أبي طالب حتى مات أبو طالب رضي الله عنه))(24).

6 ـ عن أبي بصير عن محمد بن علي الباقر عليه السلام أنه قال: ((مات أبو طالب بن عبد المطلب مسلماً مؤمناً، وشعره في ديوانه يدل على إيمانه، ثم محبته وتربيته ونصرته، ومعاداة اعداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وموالاة أوليائه، وتصديقه إياه فيما جاء به من ربه، وأمره لولديه علي وجعفر(25) بأن يسلما، ويؤمنا بما يدعو إليه، وأنه خير الخلق، وأنه يدعو إلى الحق والمنهاج المستقيم، وأنه رسول الله رب العالمين(26)، فثبت ذلك في قلوبهما، فحين دعاهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجاباه في الحال، وما تلبثا لما قد قرره أبوهما عندهما من أمره، فكانا يتأملان افعال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيجدانها كلها حسنة تدعو إلى سداد ورشاد))(27).

7 ـ عن يونس بن نباتة عن الإمام الصادق عليه السلام قال: ((يا يونس، ما يقول الناس في أبي طالب؟ قلت: جعلت فداك يقولون: هو في ضحضاح من نار يغلي منها أم رأسه. فقال: كذب أعداء الله. إن ابا طالب من رفقاء النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً))(28).

8 ـ عن درست بن ابي منصور أنه سأل ابا الحسن الأول (الإمام الكاظم) عليه السلام: أكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محجوباً بأبي طالب؟ فقال: ((لا، ولكنه كان مستودعاً للوصايا فدفعها إليه. فقال: قلت: فدفع إليه الوصايا على أنه محجوج به؟ فقال: لو كان محجوجاً به ما دفع إليه الوصية. قال: قلت: فما كان حال أبي طالب؟ قال: أقرَّ بالنبي وبما جاء به، ودفع إليه الوصايا ومات من يومه))(29).

9 ـ أخرج أبو جعفر الصدوق في الامالي باسناده عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس أنه سأله رجل فقال له: (يا بن عم رسول الله، أخبرني عن أبي طالب هل كان مسلماً؟ قال: وكيف لم يكن مسلماً وهو القائل:

وقد علموا أن ابننا لا مكذب لدينا ولا يعبأ بقيل الاباطيل

إن أبا طالب كان مثله كمثل اصحاب الكهف حين اسّروا الايمان واظهروا الشرك، فآتاهم الله اجرهم مرتين)(30).

ينابيع الحكمة على لسان أبي طالب عليه السلام

حدث الامام شمس الدين ابو علي فخار بن معد الموسوي (ت 630 هـ) بأسانيده عن المهاجر مولى بني نوفل اليماني قال: (سمعت أبا رافع القبطي مولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: سمعت أبا طالب بن عبد المطلب يقول: حدثني محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن ربه بعثه بصلة الرحم، وأن يعبد الله وحده، ولا يعبد معه غيره، ومحمد عندي الصادق الأمين)

(31).

وبإسناد آخر عن أبي رافع قال: (سمعت أبا طالب يقول: حدثني محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الله أمره بصلة الارحام، وأن يعبد الله وحده ولا يعبد معه غيره، ومحمد عندي الصادق الامين)(32)