"كريد العِش"!!

 

 

 

 

 

 

كنت أرقب الطير في عشه وكيف يذود عن فراخه , ويسعى جاهدا لإطعامهم , وتطلعت إلى العش , وإذا فيه أربعة فراخ. وكل يوم يزداد نشاط الأبوين لحشو الأفواه الفاغرة بالطعام.
وما أن مضى إسبوعان , حتى وجدت أحد الفراخ مرميا على الأرض , وحسبته قد سقط من العش , فاقتربت منه ووضعته في مكان آخر , والأبوان يرقباني بلا إستجابة , أو تهديد.
بل وكأنهما يتعجبان من سلوكي , فتركت الطير في موضع قريب من العش , ظنا مني بأن الأبوين سيطعمانه , لكنني وجدت سلوكا عدوانيا من قبلهما تجاهه , واحترت في الأمر, إذ أدركت بأنهما ينويان قتله.
فأخذته , وقد أصيب بإصابات بالغة , وحاولت إسعافه وإطعامه , لكنه مات بعد ساعات. وعندما عدت إلى العش في اليوم التالي , وجدته خاليا من الفراخ.
لقد طارت الفراخ!
فقلت: مسكين "كريد العش" (الكاف تُنطق كالجيم المصرية).
وفي مدينتنا , يقولون : "كريد العش" , "مكرود, مكرودة, مكاريد"
و"كريد العش" هوالفرخ الذي لم يتمكن من منافسة إخوانه في العش , فهو يفتح فمه كغيره , لكن الأبوين يضعان الطعام في الفم الأكثر قربا وإلحاحا وإمتدادا , ويبقى "كريد العش" الفرخ المسكين , لا يحصل على الطعام إلا بعد أن تشبع الفراخ الباقية , فينال القليل منه بعد أن يُصاب الأبوان بالتعب من كثرة الإطعام.
وإطعام فراخٍ أربعة ليس بالمهمة السهلة ,حيث ترى آثار ذلك واضحة على الأبوين.
وفي العش تكبر الفراخ , وتصبح مستعدة للطيران , لكن "كريد العش" لا يزال متأخرا ويحتاج إلى فترة أخرى . وحالما يحين وقت الإنطلاق , أو قبله بساعات , يهاجم الأبوان "كريد العش" ويخرجانه من العش , وفي أكثر الأحيان يقتلانه , وقد رُمي الفرخ المسكين من علو ثلاثة أمتار على الصخر , وهو لا يزال بلا ريش , فأصيب بإصابات شديدة , إضافة إلى مهاجمة الأبوين له ونقر رأسه.
لم أتمكن من إسعاف "كريد العش" , لأن إرادة نوعه قضت بقتله , ولأنه لا يمتلك قدرات المواصلة والبقاء والتحدي.
ووفقا لقوانين الطبيعة ومعادلاتها , لا بد له أن يبتعد عن دروب الحياة , لأنه غير قادر على السير فيها , وفي قتله تحرير للأبوين والفراخ من مسؤوليته وعبئه.
وفي عالم الحياة , تتحول المجتمعات في مسيرة التواصل الحضاري المعاصرة إلى "كريد العش".
فمجتمعات "كريد العش" , يتم قتلها وإخراجها من المسيرة , لأنها أصبحت عبئا عليها وعائقا ضد إنطلاقتها الرشيقة السريعة.
وفي هذه المجتمعات يعيش الناس , وهم يرفعون رايات "المكاريد".
فكل واحد فيهم "مكرود" أو "مكرودة" , وما يحصل في تلك المجتمعات , أنها تصبح تحت رحمة المجتمعات المحلقة في فضاءات التقدم والرقاء والتطور , والتي تعطي وتؤكد وجودها الأكبر.
فهل تعرف المجتمعات "المكرودة" ,كيف تتعافى من علتها , وتمنع تكرار مصير "كريد العش"؟!!