على مائدة الغداء , إقترب مني أحد الأخوة من غواتيمالا واستأذن بالجلوس , وأخذ يحدثني عن المعرفة والقوة , وأنا لا أعرف ما يريد قوله , ومضى قائلا: أن المعرفة قوة , ولكي تفقد القوة لا بد من فقدان المعرفة. وأضاف: قوة البشرية في معارفها , وقد إنطلقت المعارف منكم (وهو يشير إلي) , فمن أرضكم كانت الشرارة المعرفية الأولى , والإنطلاق الذي صار مطلقا. قلت: نعم من هناك! فقال: أنا في حيرة من الأمر , فالمعرفة التي إنطلقت أراها تخبو في مواضعها! قلت: أن ذلك وفقا لإرادة الغالب والمغلوب. قال: أتدري لماذا أتحدث عن المعرفة والقوة؟ قلت: أظنك تريد قول شيئ ما؟ قال: هل تتابع الأخبار؟ قلت: ليس كثيرا هذه الأيام. قال: وأخبار سوريا , هل تتابعها؟ قلت: قررت أن لا أتابعها بتواصل منذ أكثر من عام , لأن ما يحصل كان متوقعا , وتم التحذير منه مرارا , فلا فائدة من المتابعة. قال: لقد بكيت البارحة , وأنا أتابع صور الناس وهي تغادر البلاد هائمة في أرض الله الواسعة. إنها تغادر المعرفة والحضارة , لتعيش كما كان الإنسان يعيش بلا معرفة. وأضاف: إنها المأساة الحضارية القاسية. قلت: إن التأريخ يُمحى ويُزوّر. فنكس رأسه وترقرقت دموعه في عينيه. وقال: يمحون المعرفة والتأريخ , فكيف سيكون المستقبل؟ قلت: نعم فتلك حكاية ما يجري في المنطقة بأسرها , حيث تخرّب الأوطان , ويُهجّر الإنسان , ويقتل الإنسان الإنسان , ودائرة السعير تدور , ولا يعي أصحاب الأرض , عواقب السلوك , وبأنهم السجير. قال: إنه عار البشرية وخطيئتها التي لا تغتفر. قلت: المصالح تحكم. قال: أية مصلحة للبشرية في القضاء على منابع المعرفة؟ قلت: ما خفي أعظم! قال مندهشا ومتحيرا: صدقت , فما يجري لا تسعه مائدة الغداء. قلت: إن العيب فينا , والعلة علتنا , والعاهة فاعلة فينا , وستمحقنا بإرادتنا المنومة الفتاكة! قال:هذه مأساة مرعبة ! قلت: والكبائر صارت صغائرا , والحق باطلا , والحياة جحيما , فأنى تولي وجهك فثمة نار!! صمت جليسي , ونكس رأسه في أواني الطعام , ورأيت دمعة في عينيه , لكنه لملم أحزانه ونثار دهشته وحيرته , ومضى مثقل الخطوات. وتساءلت عن الوعي الإنساني , والفعل اللاإنساني المتسيد على الأيام, وما قيمة التأريخ والإنسان؟!!
|