مراكز وملحقيات ثقافية تشوه صورتنا للعالم |
لا أعرف بالضبط كم تكلّف ميزانيةَ الدولة ما تسمى بالمراكز الثقافية العراقية المنتشرة في بلاد الله الواسعة.. لا أعرف مدى التخصيصات المالية اللازمة لملحقين ثقافيين ومعاونيهم وموظفيهم في كل أو معظم سفاراتنا في تلك البلاد. لكن ما أعرفه، على وجه اليقين، أن المردود الثقافي والمعنوي لمثل تلك التسميات هو صفر، صفر بالتمام والكمال، إن لم يكن منقوصاً، ذلك أن كثيراً من المراكز الثقافية ومن الملحقيات تؤدي في معظم الأحيان مفعولاً عكسياً يضرّ بالعراق وبسمعته الثقافية وبمثقفيه. من الممكن أن نضيف لمراكزنا الثقافية والملحقيات الثقافية الدبلوماسية عشرات من الفعاليات (الثقافية) التي تقيمها وزارة الثقافة والتي تأخذ تسميات (أسابيع ثقافية) عراقية في بلدان كثيرة، وأيضاً لا أعرف كم كلفت خزينة الدولة، لكني أعرف أن عشرات من الأدباء والفنانين والمثقفين العراقيين الحقيقيين لم يشاركوا بمثل هذه المهازل التي تسخِّم وجوه منظميها، ولم أقل وجه العراق، في عواصم كثيرة. بعض منا كثيراً ما يشتم مثل هذه المراكز التي كان يحرص على افتتاحها وعلى نشاطها النظام السابق، كانت أيضاً لا صلة لها بخدمة المثقفين العراقيين، لكنها كانت مبرَّرة بالنسبة للنظام وسياساته التعبوية ومساعيه التبشيرية الإيديولوجية، حيث نجحت تلك المراكز، بكل الوسائل، بجمع مئات الكتّاب والصحفيين والفنانين حولها، وبما ساعد في خلق رأي عام عربي ما زالت الصورة مشوشة أمامه بفعل جهود تلك المراكز والملحقين الثقافيين في سفارات النظام السابق وبفعل أن لا جهد يُذكر لمراكز وملحقيات النظام الحالي من أجل تغيير الصورة. لم يقوَ هؤلاء على تغيير الصورة، ولن يقووا.. لقد كنت في إحدى المرات مرافقاً، كرئيس تحرير صحيفة، لمسؤول كبير في الدولة في إحدى زياراته لعاصمة عربية كبرى، وحين توفّرت له ساعتا فراغ وسط جدول الزيارة المزدحم فضّل أن يلتقي رؤساء تحرير الصحف ومديري فضائيات تلك الدولة.. كان ينغي الاعتماد على الملحق الثقافي العراقي في تلك الدولة لتأمين الاتصال بهؤلاء الإعلاميينن أو تأمين هواتفهم، في الأقل، لدعوتهم.. لكن فاقد الشيء لا يعطيه. لم يكن الرجل (المسكين) يعرف اسم أحد منهم، لم يكن يعرف حتى اسماء بعض الصحف، فمن أين له بعد هذا أن يوفر أرقام الهواتف. وللخروج من هذه الورطة، استعان بي أحد مقربي المسؤول الكبير برغم أن لا صلة لي بمثل هذه المهة، وكان يمكن أن استغل مثل هذا المأزق في خبر مثير لصحيفتي.. استغفرت ربي واتصلت بصديق أديب عربي من ذلك البلد، فطلب مني مهلة عشر دقائق لم يكملها حتى رنّ هاتفي ليزودني بقائمة طويلة من أرقام هواتف كبار اعلاميي البلد الذين حضروا، خلال أقل من ساعة، متفاجئين بأن يترتّب موعد لم يكونوا يتوقعونه بمثل تلك الظروف. ذلك الملحق الذي لم يتردد في أن يقدّم نفسه للمسؤول، بعد كل ماحصل، متفاخراً أمامي وبصلف بما أنجز في ذلك اللقاء كان نموذجاً لعشرات من زملائه الذين لا يعرفون شيئاً عن ثقافة واعلام بلدهم العراق مثلما لا يعرفون ولم يسعوا لمعرفة شيء عن ثقافة وإعلام البلد الذي يعملون فيه، لكنهم كانوا الأسبق إلى وظائف لم يفهموا إلا على أنها غنائم وأسلاب شعب حائر بين نار الإرهاب وأشباح الدكتاتورية وجرائم الفساد. لا أحد يعرف ما الذي تفعله المراكز (الثقافية) ولا ماذا يجري فيها.. كنا نعرف أن مراكز النظام السابق، في الأقل، كانت تؤدي مهام مكلفة بها من قبل النظام، لكن لا أحسب أن نظامنا السياسي الحالي يعرف ماذا يريد من هذه المراكز، وما الذي يمكن أن تنهض به. ما يعرفه الوزراء وقيادات الأحزاب إنها أماكن مناسبة لعيش آمن ومطمئن للأبناء والبنات وأزواجهم أو لآخرين يستطيع كل واحد منا حين يتوفر على مزاج مناسب وعلى شيء من القدرة على التحري أن يقف على درجة قربى كل موظف خدمة خارجية من هؤلاء من مسؤول ما. عشرات من مثقفي البلد يقيمون في تلك البلدان التي تستضيف مراكزنا (الثقافية) المحترمة، وبين هؤلاء العشرات من يمتلك علاقات طيبة مع الأوساط الثقافية للبلد المضيِّف ومؤسساته المعنية بعمل المراكز والملحقيات.. وعشرات من مثقفينا القابعين هنا في داخل البلد منذ عقود لهم صلاتهم وحضورهم الثقافي الفاعل حيثما يكونون.. مثقفو الخارج يحتاجون إلى ما يوصلهم بفعل شيء ما من أجل بلدهم العاجز عن استيعابهم داخله والمتمنّع عن الإفادة منهم في الخارج، بينما مثقفو الداخل يشعرون باختناق أنفاسهم بعد هذه العقود ويدركون أن بإمكانهم أن يتنفسوا هناك وأن ينقلوا هواء نقياً لثقافة بلدهم. في كل دبلوماسيات العالم التي تحترم شعوبها وتحترم مثقفيها نستطيع أن نحصي عشرات الأسماء من شعراء وأدباء وكتّاب وأكاديمين نجحوا في تمثيل بلدانهم بالخدمة الخارجية ونجحت بلدانهم وشعوبها في أن تحظى من خلال عملهم هذا بمثقفين تنوعت منافذهم وسبل تفاعلهم وإمكانات إيصال نتاجهم، الذي هو ثروة قومية، إلى العالم.. هل نحتاج إلى ذكر الأسماء، من شعراء العالم والعرب الذين أسهم عملهم الدبلوماسي في إغناء الحقلين الدبلوماسي والثقافي؟ في أحد لقاءاتي بالوزير هوشيار زيباري تحدثت عن هذا الشأن، بحضور زملاء آخرين، وعن أهمية أن يكون عدد من مثقفينا، من داخل البلد ومن خارجه، في وظائف في السفارات، سواء ملحقيات ثقافية أو سواها (طبعاً لم اتحدث عن درجة سفير).. ورأيت أن هذه مهمة وطنية وهي مهمة إنسانية.. بدا الرجل متحمساً لفكرة إشراك عدد من المثقفين بدورة سريعة لا بد منها للخدمة الخارجية، وطلب مني أن أقدم له قائمة بستين مثقفاً، وذلك بالاتفاق والعمل المشترك مع صديق آخر ذكره لي.. فهمت أن إشراك ذلك الصديق يكاد يقرب من كونه شرطاً للقبول بالقائمة التي كنت أساساً مستبعداً نفسي عنها، اعتذر الصديق عن القبول بترشيح الأسماء، طرح أسبابا لم اقتنع بها.. ولم ألتق الوزير بعدها إلا في مصادفات غير مناسبة لإحياء الفكرة التي لا أعتقد الآن بجدواها وسط هذا السعار من أجل الظفر بوظيفة خارجية لن ينالها، في معظم الأحيان، إلا من أوتوا حظاً في الجهل والتملق والتسلق.
|