مريم ..طفولة العراق الدامي

 

تمسكني دمعتي كلما سمعت صدى بكاء طفلة حتى لو كانت فاقدة لدميتها ، فما بالك حين تفقد هذه الطفلة حياتها جراء فعل يحملهُ شيطانٌ ملتحٍ تَخرجَ من مدارس قندهار وكهوف جبال حمرين وتكيات التكفير الأرعن ، ثم يأتي متمنطقاً حزاماً ناسفا ويحمل في قحفته الفارغة وهمَ أنه عندما يفجرُ نفسه سيتغدى بعد التفجير بلحظة مع النبي ( ص ) في الجنة ، حتى لو كان الثمن طفلة بعمر الوردة ورضاعة الحليب وابتسامة الدمية.
قصة الطفلة ( مريم علي ) واحدة من تفاصيل الأسى العراقي في محنته مع هذا الموت المبرمج ، عندما تؤرق صباحاتنا قدرية الموت مع النوايا التي تريد أن تُفسدَ الحياة أبتداءً من الجامع الى الحديقة العامة وسوق الخضار وحتى روضة الأطفال ، ولكن صورة أن تُقتلَ الطفولة في واحد من بيوت الله هي الفعل المضاد للوجع الروحي والأنساني في الضمير الحضاري لهذا اليوم الدامي الذي تعودتْ عليه بابل منذ تواريخ حروب ملوكها وحتى اختراع الحلة ( لطشت الخردة ) وهو الأناء الذي يُجمعُ فيه اشلاء ضحايا التفجيرات .
ومريم من بعض سكان هذا الطشت ، تلكَ الزهرة التي نبتتْ من تراب الجنائن المعلقة وصنعت لبراءتها الف نجمة من الفطرة والجمال والحلم أن تكبرَ وتتعلم وتتزوج وتنجب اطفالا مثل طفولتها لبلد قدر له أن يصنع الأنبياء والشهداء في قصيدة واحدةٍ ومزهريةٍ ورد واحدة وقيثارة واحدة وعاشوراء واحدة.
لهذا تمسكني دمعتي ويتوارثني الحزن ويسكنني الغضب ، ومريم في طيفها البنفسجي تصنع قوس قزح من الأسئلة والنظرات والحروف : لماذا أقتلْ بهذه البشاعة في فضاء لحظة الصلاة والتشفع للسماء وآل البيت ..؟
لماذا وأنا مجرد طفلة لاذنب لها سوى أن اتت بصدفةٍ الى مكان هو ليس ترسانة لمدرعات محتل ، وليس مقر فوج ، ولن تكون مخزن ذخيرة ، انما هو بيت من بيوت الله تستجير عنده الديانات والمذاهب والطوائف كلها ، لأن بيوت الله وحدها من توحد جغرافية الأمكنة ، الجامع أو كنيسة أو أو تكية صوفية فهي ملاذ حلم وآمال وبركة.
لكن لم يفهموا أسئلة مريم ولم يفهموها ، بالرغم من أنهم يدركون في اعماقهم أن نحر الطفولة هو نحر للعدل الالهي ووصاياه ، وأنهم في ذبحهم لمريم أعادوا صورة نبي الله ابراهيم ( ع ) يوم أراد ذبح ولده اسماعيل ع ، والفرق أن اسماعيل هو قربانا الهيا ، ومريم هي قربان اراده الشيطان ليذكر هذه البلاد أن الضحايا يجب أن تتنوع اشكالهم حتى لو كانوا اطفالا مثل مريم وبعمر الزهرة في بدايات فصل ربيع أرادت معه أن تصنع عطر سعادة لابويها ، لكن الشيطان صنع عطر الدمعة والحزن والموت.
مريم علي طفلة ( بابل ) ، قطرة الدم التي صبغت منبر الجامع ، الصورة الأكثر فهما للضمير البشري من بوينس أيرس في الأرجنتين وحتى قضاء الكفل في بابل هي من بعض مأساة اليوم الوطني لبلاد ما بين النهرين ، وهي الوجه الأممي الأكثر بياضا لبراءة الدمى وبدلات الزفاف ورسائل العشق وقلائد العنق ، هي اليوم ضحية العفن المتناسل في أدران الفكر الأسود والكاره والجاحد والغبي ، تذهب الى خالقها وكافلها في جنائنه الفسيحة ، تتحول الى ملاك من ملائكة الله وتطير في فضاءات دمعتنا صورة معبرة عن مدى قدرتنا حتى نصمد ونعيش ونمضي الى وطن متماسك ورائع يصنع لنا بدل الفقيدة مريم مليون مريم كل يوم......!