كانت صباحاتنا تشرق و تزدهي بحضورها البهي والجميل الرائع ، تلك السيدة الجميلة و الأنيقة بأثوابها زاهية الألوان التي كانت ينم اختيارها لملابسها عن ذوق راق ، قد يكون أقرب إلى ذوق رسام ماهر أو مصمم أزياء موهوب ، إذ كانت ترتدي كل يوم ثوبا جديدا وجميلا بألوانه المتناسقة و الرصينة يضفي عليها رونقا و حضورا خلابا .. وعندما كانت تدخل ممر الدائرة متهادية بخطواتها الواثقة ذات رنين هادئ ، كانت تبدو و كأنها باقة من قوس قزح مذهل و ساحر وهي تضيء الممر بحضورها المشرق ، لتبدو و كأنها محاطة بفراشات ملونة و بطيور جنة مرفرفة حوليها ، تتقدمها ، مشعة ، ابتسامتها الودية و الدافئة وهي تلقي تحياتها الصباحية على زميلاتها و زملائها كمن ينثر باقات من زنابق على أحبائها بتلك الطيبة و المحبة الصادقتين .. غير أن الخلل الوحيد الذي كان يعّكر و يفسّد ذلك الجو الجميل و البهي الذي يخلقه حضور تلك السيدة الجميلة و الأنيقة ، هو طبيعة المكان الحافلة بالنفايات و الزبالات ، بحكم الإهمال و اللامبالاة المطلقين إزاء النظافة شبه المعدومة هناك ، بحيث كان يبدو المكان أشبه إلى إسطبل منه إلى دائرة حكومية أو رسمية ، بالرغم من وجود منظفين الذين كانوا يفتقرون إلى حس النظافة و أهميتها الصحية و الجمالية ، و بالتالي كانوا يخطون فوق ركام النفايات عابرين ماضين إلى دهاليز كسلهم و نعاسهم و غفوتهم حتى نهاية الدوام .. فآنذاك كانت تلك السيدة الأنيقة تشمر على ساعدها وتناول مكنسة و سطل ماء لتقوم بعملية تنظيف واسعة و دقيقة ، قائلة : بأنه لا يجوز التوافق مع القذارة و العيش معها حتى ولو لساعات قليلة !.. فالبهائم هي وحدها فقط ترضى لكي تعيش في وسط نفايات و قاذورات .. و بعدما تنتهي من كل ذلك و تمسح طاولتها مرارا ، معقمة إياها بسائل مطهر ، تسحب حقيبتها الكبيرة واضعة إياها فوق الطاولة لتخرج منها أطعمة مختلفة الألوان والنكهات الطيبة كدولمة أو كفتة أو صدر دجاج أو بيض مسلوق أو " لوبية " أو شرائح لحم مشوية مع كميات كبيرة من خضار و صمون ، داعية ــ بكرمها المعهود ــ زميلاتها و زملاءها إلى مائدة الإفطار الشهية ، طبعا دون أن تنسى أن تعمل " سندويشة " أحيانا حتى للمنظفين الكسالى !.. كانت تلك السيدة الجميلة والأنيقة وبحكم طبعها الجميل و الطيب تبدو مستعدة لتساعد هذا و ذاك ، و أي كان ، عندما يصبح المرء بحاجة إلى مساعدة ما ، فكل ذلك كان يجعلها أجمل و أروع : إذ أن تكون المرأة جميلة و طيبة و نبيلة روحا و جسدا في آن واحد ، فذلك هو قمة الجمال البهي و الصافي و الخالص المشرق .. و كم اعتبرت نفسي محظوظا من قبل قدري ، الذي أنعم عليَّ بتلك الصباحات الجميلة التي كانت تهبها لنا تلك السيدة الأنيقة ، ليصبح يومنا محتملا ومريحا و شيقا و بهيجا حتى نهاية الدوام .. و ها أنا أوشك على المغادرة و الرحيل ، محتفظا في ذاكرتي مكانا مزدهيا بإشراق و حقل زنابق ورياحين فراشات ملونة و طيور جنة وأسراب من بلابل صباح تغرد باسم تلك السيدة الطيبة و الأنيقة لتذكرني بحضورها البهي و المقيم بين غابات تمتد من تلال ذاكرتي حتى تخوم قلبي .
|