عذراً لكم ولشط العرب

 

 

 

 

 

 

ربما لا تعلمون بالضبط من أين بدأت حكايتي مع شط العرب ؟, وكيف كرست وقتي وجهدي لخدمة ممراتنا الملاحية ومياهنا الإقليمية المرتبطة بها ؟, وربما لا تعلمون بما أنجزته وحدي حتى الآن من أجل الدفاع عن مسطحاتنا المائية وحمايتها والذود عنها, لكنني اعتذر لكم اليوم, واعتذر لشط العرب, وأعلن عن فشلي وضعفي في مواجهة الخلايا السرطانية, التي تسببت في تفاقم ظاهرة الانكماش, وأعلن لأول مرة عن عدم قدرتي في العوم ضد التيار في بحرنا الإقليمي المعزول في رقعة منزوية بين (أم قصر) و(خور الزبير). . أحيانا أجد العزاء بالحكمة التي تقول: اليد الواحدة لا تصفق, فارفع عقيرتي بالصياح, وأوجه ندائي إلى العراقيين في الداخل والخارج, فيأتيني الصدى مجلجلاً من محطات الغربة والاغتراب, من القلوب المليونية المفعمة بحب الميزويوتاميا, من الذين لا قدرة لهم على صناعة القرار, ولا التأثير عليه, ولا حتى مناقشته مع أصحاب الحل والعقد, فارفع صوتي مرة أخرى بالعويل والبكاء, وأصيح بالخليج: يا خليج يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى, فيرجع الصدى كأنه النشيج: يا خليج يا واهب النكبات والمصائب والردى, ثم انهض من جديد لاستنفر طاقتي كلها في البحث عمن يعينني ويؤازرني في هذه المعركة التي قل فيها الناصر, وانشغل عنها المتاجر, وهرب منها الخاسر, وتآمر فيها الفاجر, وعبث بها المقامر. . صار بيتي منذ أعوام صومعة صغيرة, أعتكف فيها, وانصرف في عزلتي إلى الكتابة, فأواصل نشاطاتي في الذود عن حقوق العراق الملاحية, والتعبير عن أوجاعه وآلامه بأروع النصوص واللوحات والمواقف وبلا هوادة. كنت حريصا على حماية ارثنا البحري والتعمق في دراسته, حتى أصبحت مسكونا بمسالك خور عبد الله, و(الروكا), و(السد الخارجي), و(السد الداخلي), و(مدخل الفاو), وانعطافات (سيحان). . لكنني وجدت نفسي في نهاية النفق المظلم أغرد خارج السرب, فغرقت سفينتي في بحار التهميش, التي سيسخر منها التاريخ, وتمزقت أشرعتي في عواصف التنكيل والتشويه والتشويش. بيد إني مازلت أتباهى بكتاباتي الجريئة, التي استنهضت فيها الهمم الوطنية الصادقة, فكتبت سلسلة من المقالات ابتدأتها في جريدة (المنارة) بـ (عراق بلا سواحل), وأشرت إليها في جريدة (الزمان) بـ (كيف انكمشت سواحلنا ؟؟), وأنهيتها في جريدة (المستقبل العراقي) بـ (حتى لا تضيع موانئنا النفطية). . كنت قبل عام 2003 من ذوي المجرمين, فأصبحت اليوم من (المجرمين) في تطور غير متوقع ضمن تصنيفات الافتراء والتنكيل, كان خصومي فيما مضى من الوصوليين والانتهازيين الباحثين عن الفوز بتكريم السلطة, اما اليوم فقد كرمتني السلطة بطريقتها الخاصة, فعزلني بعض أقطابها, ووضعوني في خانة النسيان, وصار خصومي الجدد من الوزراء والنواب وكبار المسؤولين, وفزت في الوقت نفسه بباقة من الأصدقاء الجدد من الوزراء والنواب وكبار المسؤولين. . كنت أول من كشف أسرار التغيرات الجيولوجية السلبيىة في مصب شط العرب, وأول الرافضين لأسمه الأعجمي الجديد (أرفند رود), وأول من سلط الأضواء على الانتهاكات الكويتية في حوض خور عبد الله, وأول من فضح تجاوزاتها على الممر الملاحي الوحيد المؤدي إلى أم قصر, وأول من أطلق التحذيرات من احتمال ضياع موانئنا النفطية تحت وطأت الانكماش الهائل في مسطحاتنا البحرية. . وهكذا احتشد ضدي الذين وقفوا وراء هذا التقهقر المريع, فسرت وحدي في هذه المسالك الوعرة إلى أن تَحَامَتْنِي العشيرةُ كُلّهَا وأفردتُ إفرادَ البَعِيْر المُعَبَّدِ, فصار بيتي هدفاً للغارات والمداهمات الليلية المتكررة, من دون أن اقترف ذنباً أو ارتكب إثماً, ومما زاد الأمر سوءا إن كبار المسؤولين صاروا هم الذين يناصبوني العداء, تارة يتهمونني ظلما وعدوانا بتهريب النفط, وتارة يزعمون إنني شيخ القراصنة, وما إلى ذلك من الاتهامات الباطلة, وكل القصة وما فيها أنني ارتويت من مياه شط العرب, وكنت صادقاً معه ومع القوارب والسفن التي رفعت أشرعتها في ضيافته. . طلب مني النجيفي التحدث عن الآثار السلبية لميناء مبارك, فوقفت وسط البرلمان وقرأت لهم قصيدة (يا صبر أيوب), قال لهم وزير الخارجية: اسكتوا فنجان فقد كفر, فلم يفزع لي أحد, فجاءني الدعم على الفور من النائب الغيور (محمود عثمان), الذي دافع عني تحت قبة البرلمان بلسان عربي فصيح, فقال للوزير: اسكت أنت, ودع فنجان يتكلم عن مياهنا الإقليمية المنهوبة والمسلوبة والمنكمشة ولا تقاطعه. . قال لي صديقي محافظ البصرة: ستكون أنت المستشار البحري المعول عليه, فاعترض المعترضون, الذين لا يفقهون في البحر, ولا يجيدون السباحة في النهر, ثم تجاهلوني وتعمدوا تهميشي, ربما لأنني لم أنتم في يوم من الأيام إلى كتلة سياسية تحتضنني وترعاني وتدعمني, وربما لأنني كنت صادقا في انتمائي إلى ديني وعروبتي وإنسانيتي, فرفضت التآمر على وطني, ورفضت التفريط بأرضي ومياهي, ورفضت أن أكون معصوب العينين وسط التحركات المريبة عند مقتربات حدودنا البحرية. . أتعس ما أمر به اليوم هو شعوري بالغربة في بيتي ووطني, وشعوري بالخذلان بين أهلي وجيراني, أما كيف تكون الغربة في الوطن ؟, وكيف يعيش الإنسان غريبا في بلده ؟, فتلك مسألة لا يفهمها, ولا يحس بها إلا نحن الذين عشنا في العراق تعساء في أوطاننا, تعساء في منافينا, تعساء في نومنا, تعساء في يقظتنا, وكأننا خلقنا تعساء, وكتب علينا أن نعيش غرباء, ونموت غرباء. . حتى أصدقائي البحريين الذين وقفت معهم وآزرتهم في يوم من الأيام تنكروا لي, وصاروا من المتفرجين الشامتين المتهكمين, ومنهم من انضم لقافلة المتعالين بعدما سنحت له فرصة التحليق فوق سواري سفننا المعطوبة, فلم اندهش عندما قال لي أحدهم: لن أنفعك ولن أدعمك لكنني لن أضرك. . لا أريد مالاً كالذي كان لقارون، ولا سلطاناً كالذي كان لفرعون، إلا بمقدار ما يعينني على العيش بسلام ومواصلة القراءة والتّفكر والإبداع والكتابة. ربما تكفيني كلمة طيّبة أشعر من خلالها أنّي لم أُضيع وقتي سدى حين كنت أسهر الليالي الطّوال في القراءة, والبحث, والتّرجمة, والمراجعة, بغية نشرِ نورِ المعرفة البحرية بين النّاس، فالمعرفة حقٌّ للبشر قاطبة. اشعر أن الكلمة الطيبة التي تقال لي بعد نجاحي في مشواري المهني, ونشاطي البحري هي التّكريم الذي أرجوه, والفرح الذي أنتظره، والوسام الذي أضعه على صدري, وأفاخر به الدّنيا. . ليس هذا التّكريم منّةً من أحد ، وإنما هو حقٌّ طبيعي وواجبٌ على النّاس الذين كرست حياتي لخدمتهم. إنّ قصّة البشرية برمّتها, إنّما هي قصّة الإبداع والتفوق, التي كتبت فصولها أقلام أولئك الذين أناروا بضوء عيونهم دروب الإنسانيّة الظّلماء، وكتبوا بمداد قلوبهم قصّة الحقّ والخير والجمال، ونكران هؤلاء إنّما هو نكران القيم النّبيلة كلّها، وجحودٌ للسّمو الرّوحي، واضمحلال لحياة الأمم التي لا تحيا ولا تسمو ولا تخلد إلا بهم. ولا شكّ في أنّ تكريم المبدعين أو نكرانهم هو أمر نسبي، يختلف من أمة إلى أخرى تبعاً للظّروف, التي تعيشها هذه الأمّة أو تلك. . لكنني أقولها وبتجرّد, إنّه من المؤسف أن يكون الجحود والنّكران والعزل، مصير الرجل الذي سبق أقرانه في كتابة مسودة قانون الموانئ العراقية, والتعليمات الصادرة بموجبها, وكتابة مشروع السلطة البحرية العراقية, وسبق أقرانه في كتابة آلاف المقالات والبحوث, وكان أول من خط بيده مسودة قانون السلطة البحرية المقترحة, ومازالت صفحات الصحف والمجلات العراقية تشهد له في إثراء المكتبة العراقية بكل ما يتعلق بتاريخ ومستقبل شط العرب والمياه الإقليمية العراقية. لقد أفنيت عمري في سبيل استعادة أمجاد العراق البحرية, وفي سبيل بسط سلطة العراق على مسطحاته المائية, وتعزيز سيادته ورفعته وسموه. وكم كان قائل هذا البيت صادقا, حين قال: يبقى الأديبُ غريباً في عشيرته زوّاره الخوفُ والحرمانُ والنَّكدُ وهذا ما نلمسه اليوم, حينما يستبعد صاحب الخطوات الرائدة, ويعزل بعيدا خارج السرب في الزمن الذي تعثرت فيه مسيرتنا الحرجة, وفي الزمن الذي تراكمت فيه كبواتنا وسقطاتنا, فعذراً لكم ولشط العرب الذي صار مستودعاً للنفايات, وعذراً لخور عبد الله الذي صار ملكاً صرفاً للكويت, وعذراً لمياهنا الوطنية التي فقدناها في خضم تداعيات الانكماش نحو الداخل, وعذراً لمياهنا الوطنية التي سنفقدها بعد بضعة أعوام في ظل التنازلات السخية التي سنمنحها طوعاً أو كرهاً لدول الجوار, فلا قدرة لي وحدي على مواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية, التي تستدعي استنفار جهد الدولة كله في التصدي لها, فاعذروني مرة أخرى فلن استطيع أن أوصل صوتي إلا في حدود المساحات الضيقة المتاحة, فما باليد حيلة, ولا رأي لمن لا يطاع, وما كل ما يعرف يقال في بحر الظلمات. . والله يستر من الجايات