جرعات التخويف في حياة العراقيين... ثقافة الخوف من المهد إلى اللحد

 

 

 

 

 

 

ربما لا يعلم الناس أننا في العراق نولد في حاضنات الرعب والخوف, ننشأ بين مخالبها, نترعرع في دهاليزها المظلمة, نعيش مع تفاصيلها الرهيبة من ساعة ولادتنا وحتى يوم مماتنا, وقد نتلقى المزيد من جرعاتها الإضافية ونحن في القبر, فمسلسل التخويف والترهيب والرعب لا ينتهي ولن ينتهي, وأغلب الظن انه بات لصيقاً لنا في مراحلنا العمرية من الطفولة إلى الشيخوخة, من المهد إلى اللحد, حتى صار من المفردات اليومية التي لا يمكننا العيش من دونها, أو الفرار منها. . .
فما أن نولد في العراق حتى تُقيد حركتنا, وتُصادر حريتنا, إذ تربطنا أمهاتنا بقماط مفتول, يُلف بقوه حول قماش سميك يغلف أجسامنا, فالقماط في اللغة هو الحبل الذي يُشد به الأسير, أو الحبل الذي تُشد به قوائم الدابة المرشحة للذبح, ثم نوضع في مهد مصنوع من قضبان الحديد, أومن أعواد الجريد, في أقفاص محكمة أقرب ما تكون لزنزانات المساجين في محاجر الأحكام الثقيلة. .
فيعيق حركتنا القماط, ويبطئ نمونا, ويكبت تنفسنا, ويضيق الخناق على صدورنا, ويحبس الرطوبة حول أجسامنا, وبالتالي تتسمم جلودنا وتتقرح, وهكذا نتلقى في هذه المرحلة أقسى جرعات الضغط والتعذيب, من دون أن نستطيع البوح بما يؤلمنا ويؤذينا. .. .
ثم يُطلق سراحنا في الشهر السابع فنتلقى الوجبة الثانية من جرعات التخويف على يد الجدات, اللواتي يجبرننا على النوم القسري, أو يمنعننا من مغادرة الدار, أو بقصد تعليمنا أول دروس الطاعة. .
تنحصر أدوات التخويف في هذه المرحلة بمجموعة جاهزة من العفاريت والسعالي, تبدأ بأم المساحي, وتنتهي بخضرة أم الليف, وتتضمن أيضاً: حمارة القايلة, وأم الحللّس, والبعبع, والقرطة, والطنطل, والسعلوة, وعبد الشط, وعبد البير, الذي يفوق السعلوة في وحشيته وبطشه, وهو المسؤول عن سحب الأطفال, الذين يتواجدون حول الآبار وقت الظهيرة, أو القرطة التي تخطفهم عندما يأوون ليلاً إلى فراشهم قبل أن يغسلون أيديهم بعد تناولهم طعام العشاء. . 

نبدأ حياتنا الدراسية المبكرة في الكتاتيب عند الشيخ أو (الملة), أو (المطوع) لنتعلم مبادئ التلاوة, فنتلقى منه أول جرعات الرعب والتخويف بخيزران نحيفة طويلة مرنة, وتتعود آذاننا منذ الصغر على سماع أصوات الزجر والتوبيخ والتقريع, ثم ننتقل إلى الدراسة الابتدائية بهذه القلوب المذعورة المشبعة بصور العفاريت المقتبسة من الحكايات الخرافية الموروثة, فيواجهنا مدير المدرسة بهراوته الكبيرة, لينهال علينا ضرباً في البرد القارس من دون أن نرتكب إثماً أو نقترف ذنباً, ومن دون أن نجرأ على إشعار أمهاتنا حتى لا نتلقى منهن المزيد من العقاب البيتي. .
يدخل علينا معلم القراءة أو معلم الحساب بهراوته الطويلة أو بمسطرته المسننة, وأحيانا يمارس تمارين الملاكمة بين مقاعد الفصل, فيتدرب بوجوهنا البريئة, موجهاً إلينا سلسلة من الركلات والصفعات المبرحة لأتفه الأسباب. .
أما آخر الضحايا فكان التلميذ العراقي, الذي لفظ أنفاسه في مدارس محافظة ميسان مساء يوم السادس من آذار (مارس) 2012 بعد أن حبسته معلمته في المرافق الصحية ونسته هناك, ليقضي ساعاته الأخيرة في الظلام الدامس, ويقف وجها لوجها أمام كل عفاريت الفزع, التي سمع عنها في طفولته, فمات المسكين من شدة الخوف. .
ثم ننتقل إلى المرحلة الثانوية فتتسع دائرة الخوف في حياتنا, لنجد أنفسنا بين جدران قلعة جديدة من قلاع القلق, حيث تتفجر رعونة العصابات الطلابية بصورتها العفوية المتهورة, أو بتقوقعها الأيديولوجي المشفر, أو بصيغتها الدينية المتطرفة, أو بنزقها الهمجي المشاغب, فتصبح الثانوية كابوسنا المرعب, ويتحول الحراك السياسي الطلابي المراهق إلى وحش كاسر يتربص بالطلبة, فيعكر عليهم صفو حياتهم الدراسية في مساحة ضيقة, تتسيدها مجاميع متباينة الرؤى والأفكار من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار, هذا يعمل لكي يقال عنه انه مناوئ للنظام, حتى يتفاخر أمام التلميذة التي يعشقها من طرف واحد, وهذا يعتنق فكرة سياسية معارضة تتقاطع مع أفكار الحزب الحاكم لأسباب شخصية بحتة, وطلاب بالمئات يلتحقون في عامهم الأول بتنظيمات الحزب الحاكم, ليس من أجل فكرة أو منهج, بل من أجل تحقيق بعض المكاسب اللحظية, ودائما ما نجد رجال الأمن يحومون حول مدرستنا ليرعبوننا بنظراتهم الشريرة, أو ينهالوا بالضرب المبرح على طالب من الطلاب فيطير صوابنا بذريعة ارتداءه قميصا فاقعا يخدش الحياء العام. .

تتسع آفاق ثقافة الخوف والتخويف, وتكبر جرعاتها المميتة بعد انتقالنا إلى التعليم الجامعي, لنجد أنفسنا تحت طائلة التصنيف الطلابي القسري, إما ضد النظام الحاكم أو مع النظام الحاكم. . 
طلاب يراقبوننا من بعيد, ويتعقبوننا خطوة بخطوة, وسلسلة من الاتهامات الباطلة تنتظرنا في اليوم التالي, في الوقت الذي ترتفع فيه رايات الانتهازية والوصولية, فيتحول الحرم الجامعي إلى بحيرة خاضعة لتقلبات موجات المد والجزر, بين الدعوة للارتقاء والإبداع والتنافس في واحة العلوم والفنون والآداب, وبين السقوط في قبضة عصابات التخويف الفئوي أو الطائفي أو العقائدي, وبين التهديد بالفصل, أو التهديد بترسيب الطالب بمادة محددة, أو بتكليف الطلاب فوق طاقتهم. .
نتخرج في الجامعة بشق الأنفس لنتوجه مباشرة إلى مراكز التجنيد الإلزامي, فنؤدي خدمتنا العسكرية المقررة في الوحدات القتالية الفعالة, ونشد الرحال لنواجه الموت بموجب أحكام شريعة التخويف, عندئذ يتأرجح بندول الأيام العصيبة بين الطاعة العمياء للأقدم والأعلى رتبة في المؤسسة العسكرية, وبين التحول إلى رجل آلي مسلوب الإرادة, أو التقزم في شخصية كائن مسخ مطيع, تحركنا الأوامر الغبية, ويتحكم بنا الروتين القاتل, نخضع خضوعا تاما لشعار (نفّذْ ولا تعترض), في أجواء مرعبة نلعق فيها مرارة المعاملة القاسية, والمهانة والسخرية, وقد تستمر الخدمة الإلزامية إلى ما لا نهاية, إذ كثيرا ما تتمدد إلى أجل غير مسمى. .
تنتفض عفاريت الخوف عند اشتداد القصف المدفعي, والغارات الصاروخية, التي ظلت تطاردنا من ساعة التحاقنا بالجيش, وحتى بعد تسريحنا من الخدمة, فدمرت بيوتنا, ونشرت شظاياها في كل مكان. .
ربما اشتركت معظم جيوش أقطار كوكب الأرض, إن لم تكن كلها, في قصفنا وقتلنا وتشريدنا, فقصفتنا الجيوش العربية والإيرانية والأمريكية والأوربية والإفريقية والاسترالية, حتى اليابان وكوريا واسبانيا وايطاليا ولاتفيا والدانمارك والبرازيل وكل الذين تحالفوا مع قوات التحالف, ومن وراءهم قوات درع الجزيرة. .
كانت الطائرات الكويتية والقطرية أول من اشترك مع الغزاة بتدمير مدننا, حتى الجيش العراقي نفسه, ذلك الجيش الذي ينتمي إلينا وننتمي إليه, اشترك في يوم من الأيام في شن غاراته علينا بقذائف الهاون والآر بي جي, وتورط بتهديم بيوتنا وتحول في بعض الصولات إلى قوة كاسحة تتربص بنا شراً. .

لا توجد منظمة حزبية واحدة في العراق, قديمة أو حديثة, علمانية أو متدينة, متحضرة أو متخلفة, إلا وكان لها حصة في ترويعنا وتخويفنا وترهيبنا واستفزازنا, حتى رجال الدين, الذين كنا نتوقع منهم الحلم والتسامح, صاروا يخوفوننا أيضاً من أنفسنا, ويخوفوننا من الآخرة, ويخوفوننا من عذاب القبر بعد الممات, وأحيانا يقولون لنا: ان الله سيرميكم في جهنم إذا لم تنتخبوا فلان, وسينزل عذابه عليكم إذا لم تختاروا القائمة الفلانية. .
ولن تنتهي جرعات التخويف حتى لو أصبحنا داخل القبر, وكثيرا ما سمعنا الحانوتي وهو يقرأ هذه الكلمات إثناء تلقينه أمواتنا, فيقول: ((أيها الميت كيف بك إذا جاءك الملكين منكر ونكير, أصواتهما كالرعد القاصف, وأبصارهما كالبرق الخاطف. . . )), فالخوف في العراق قرين يرافقنا من المهد إلى اللحد, رصاصة تخترق أذهاننا, لها دوي كدوي الصواعق. .
في العراق نخاف من رجال الشرطة, نخاف من رجال الأمن, نخاف من رجال المخابرات والاستخبارات والشؤون الداخلية, نخاف من نقاط التفتيش والسيطرات في الطرق الخارجية, نخاف من غرف التحقيق, نخاف من مكاتب المفتش العام, نخاف من الحكومة, نخاف من هيئة النزاهة, نخاف من كاميرات المراقبة, نخاف من العبوات الناسفة والسيارات المفخخة, نخاف من المسدسات الكاتمة, نخاف من التهم الباطلة, نخاف من المسؤول, نخاف من المجهول, نخاف من مأمور الضرائب ومن الطبيب وساعي البريد ومواكب المسؤولين, نخاف من القضاء والقدر, نخاف من المستقبل, نخاف من التغيير, ونخاف أن نضحك حتى لا تطاردنا آلهة الخوف, فالخوف في العراق يزعزع نفوسنا المرهقة, ويجعلنا فريسة سهلة للقلق والفشل والتخلف. .

منذ عقود, والعراقيون يموتون من أجل الوطن. ما نفع وطن حي, ومواطنوه موتى في المقابر؟؟. منذ عقود, والعراقيون يبكون من أجل الوطن. ما نفع وطن سعيد ومواطنوه حزانى ؟؟. منذ عقود, والعراقيون موزعون في المنافي, ما نفع وطن لا يضم أبناءه إلى صدره ؟؟. منذ عقود, والعراقيون يُدفنون في مقابر الغرباء. ما نفع وطن لا يَدفِنُ الحنين إليه تحت أرضه ؟؟. .
الإنسان في البلدان المتحضرة (ديك) ينفش ريشه بوجه الصعاب, يمتلك قدرات هائلة على التحدي والإبداع, بينما الإنسان في بلدي المحتضر مجرد (دودة) تختبئ في ثقوب الخوف, تدفن نفسها في الأرض, أو بين الحفر. .