في آخر محاضرة للدكتور صادق جلال العظم في برلين شخَّص بصواب الرؤية أو الفكرة الدقيقة التالية: " الربيع العربي هو ببساطة عودة السياسة إلى الناس وعودة الناس إلى السياسة بعد اغتراب وابتعاد طويلين بسبب من المصادرة والاحتكار المديدين لكل ما هو سياسي في مجتمعات عربية معينة من جانب نخب عسكرية ومن لفّ لفّها من مصالح طبقية وتجارية..." (د. صادق جلال العظم. الربيع العربي والإسلام السياسي, موقع الجدلية على الإنترنيت). هذا ما حدث في تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا والعراق, بغض النظر عن النتائج التي تحققت حتى الآن, إذ إنها البداية ولم تنته بعد, وهذا ما يحدث اليوم في تركيا والبرازيل, وما يمكن أن يحصل في دول أخرى. إذ كلما ارتفع وعي الناس بظروف حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والبيئية وما يعانون منه من كوارث وآلام بسبب وجود حكومات رجعية وظالمة واستبدادية وما ينشأ عن ذلك من واقع انتشار الفقر والبطالة المكشوفة والمقنعة, إضافة إلى الفساد والإرهاب الحكومي أو من جانب قوى سياسية متطرفة وعدوانية أو عصابات الجريمة المنظمة حتى في أغنى دول العالم المنتجة والمصدرة للنفط الخام والغاز والمواد الأولية ذات الأهمية الاستراتيجية الأخرى, اتجه نحو إعلان رفضه لسياساتن هذه النظم والاحتجاج عليها والانتفاض ضدها. وحين تتحرك هذه الشعوب أو تنتفض وتطالب بحقوقها المسلوبة وتغيير واقعها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والبيئي بطرق سلمية, سرعان ما تتصدى حكومات تلك البلدان لهذه الشعوب وتواجهها بخراطيم المياه وقنابل الغاز المسيل للدموع أو بالرصاص المطاط ومن ثم بالرصاص الحي ليسقط من يسقط ويعوق من يعوق فوجود هذه الحكومات في السلطة هي الغاية الأولى والأخيرة لحكام هذه الدول. إذ من خلال هذه السلطة يصلون إلى المال والجاه وما يريدونه لهم ولمن يساعدهم على الاستمرار في السلطة. فما هي ذريعة هؤلاء الحكام الأوباش باستخدام أساليب العنف في قهر حركات أو انتفاضات شعوبهم بوجه الظلم والاستبداد والقهر؟ كل التجارب التي عشناها خلال السنوات العشر الأخيرة تؤكد بأن هؤلاء الحكام لا يختلفون في توجيه الاتهام مباشرة إلى قوىً خارجية تتسبب في إثارة هذه الشعوب لتتحرك وتنتفض ضد حكوماتها. ويبدو لي أن ليس في مقدور هؤلاء الحكام الذين وصلوا إلى السلطة بأساليب وظروف مختلفة أن يفكروا بأن السبب وراء كل ذلك هي سياساتهم أو سياسات الحكومات التي يترأسونها والأحزاب التي يمثلونها. ليس في مقدورهم أن يفكروا بما تفكر به شعوبهم, رغم إن بعضهم قد جاء إلى السلطة السياسية بدعوى رفضه للسياسات الظالمة للحكام الذين سبقوه أو لرفضه لسياسات قهر الشعوب. لنتابع معاً ما حصل بالعراق في العام 2011 حين نهضت قطاعات مثقفة وشعبية من النساء والرجال من الشعب العراقي تحتج وتطالب بتغيير الأوضاع المزرية وسياسات القهر الاجتماعي والفقر والبطالة ونقص الخدمات وخاصة الكهرباء واستمرار الإرهاب والفساد السائد. وقف نوري المالكي يشتم المتظاهرين وينعتهم بشتى النعوت الظالمة والمسيئة بهدف تأمين إمكانية ضربهم بقسوة دون أن يحصلوا على تأييد شعبهم, أو ما يحصل الآن في المحافظات الغربية والعواقب الوخيمة المحتملة لسياسات المالكي وحكومته الطائفية اللعينة. وشكل المالكي جوقة المهللين لسياساته والمسبحين بحمده والسائرين بركابه. ولنأخذ ما يحصل منذ سنيتن في سوريا. قتل وتشريد وتدمير متواصل. حتى أُجبر العالم على التدخل لصالح الشعب السوري. ولكن هناك بعض الدول التي تريد الاستفادة من استشهاد الناس في سوريا لصالحها مثل السعودية وقطر بشكل خاص, وكذلك جماعة الإخوان المسلمين ومن لف لفهم. وقد أرتفع عدد القتلى إلى أكثر من 100000 إنسان سوري وأكثر من هذا الرقم من الجرحى والمعوقين وملايين المهاجرين قسراً إلى الأردن وتركيا ولبنان والعراق وإلى عدد من الدول الأوروبية هرباً من القتل أو الاعتقال أو الجوع والحرمان. أو لنأخذ نموذجاً آخر هي تركيا. لقد توهم رجب طيب أردوغان بأنه قد اقترب من تحويل تركيا إلى إمبراطورية عثمانية جديدة تحت قيادته وفي ظل الإسلام السياسي, إلى دولة إسلامية تفرض سياستها وهيمنتها على المنطقة ودول أخرى من الجمهوريات السوفييتية السابقة. فبدأ يبشر بالنموذج التركي للإسلام السياسي ويعلن عن "علمانيته" المزيفة مرة وعن "ديمقراطيته" المشوهة مرة أخرى, ولكنه راح في الوقت نفسه يتدخل في شؤون الدول التي بدأت الحركات الشعبية المناضلة فيها تتوجه ضد حكوماتها ونظمها السياسية ليدفع بها صوب اختيار طريق الإسلام السياسي. وكأنه يقدم شيئاً جديداً فهلل له البعض في أوروبا وفي الدول العربية, ولم ينتظروا قليلاً ليروا حقيقة ما يجري في تركيا, ولم يطل الوقت إذ سرعان ما بدأ يهاجم كمال أتاتورك, بعد أن كان يمدحه في السابق, وبعد أن شعر بقوته داخل تركيا وقبوله كمسلم متجدد, وبدأ يبشر بالعودة إلى الأصول, إلى الإسلام لإقامة مدارس إسلامية اغلقها كمال أتاتورك وزيادة عدد الجوامع التي قلصها والعودة إلى "تقاليد" إسلامية متخلفة حاربها أتاتورك, وإلى "الحرية" التي خنقها أتاتورك! ولم يقصر في مهاجمة وسائل الإعلام وزج بأكثر من 100 صحفي تركي وكردي في السجون التركية واتخذ جملة قرارات فيها ردة فكرية على الفكر العلماني الذي اعتادت عليه تركيا. وأدرك الكثير من الترك والكرد وغيرهم عن أي إسلام سياسي جديد يتحدث رجب طيب أردوغان, عن إسلام قديم بلباس جديد مزيف, مما دفع بأوساط واسعة من الشعب التركي أن تتحرك ضد هذه الحكومة التي تدفع بالبلاد صوب الظلامية الإسلامية السياسية تدريجاً وعبر تزييف وتشويه الوعي الاجتماعي لدى الإنسان التركي. لقد عاد إلى حزبه القديم الذي خرج منه في العام 1999, حزب الفضيلة الإسلامي بقيادة نجم الدين أربكان وشكل مع عبد الله غول حزب العدالة والتنمية. وحين تحركت أوساط واسعة من هذا الشعب ضد هذا التوجه الإسلامي المتشدد تدريجاً, استخدم أردوغان العنف والقسوة الصارخة ضد المتظاهرين والمحتجين واتهمهم أولاً وقبل كل شيء بأنهم مدفوعون من "الخارج", وهم بالتالي عملاء لحكومات أخرى. إنها الشماعة التي يعلق عليها الحكام المستبدون ذرائعهم لضرب الاحتجاجات والانتفاضات الشعبية. ولم يكتف أردوغان بذلك بل إنه اتهم في آخر خطاب له المتظاهرين في البرازيل بأن هذه الانتفاضة الشعبية هناك حرَّكتها قوى خارجية أيضاً, وهي تهمة لم توجهها رئيسة الدولة في البرازيل للمتظاهرين الذين زاد عددهم على مليوني متظاهر. إنها لوقاحة ما بعدها وقاحة حقاً!! كم هم أغبياء هؤلاء الحكام؟ حالما تعي شعوبهم بمرارات العيش في ظل سياسات قهرية, يتهمونها بالارتباط بالخارج وتلقي التعليمات من الخارج ولا يريدون وعي حقيقة إن هذه الانتفاضات لا تأتي بتأثير من الخارج, بل هي نتاج عملية معقدة وطويلة وصعبة حتى تستطيع الشعوب التغلب على خشيتها من الموت والسجن والتعذيب وتمارس السياسة, حين يتعذر عليها العيش في ظل الأوضاع الجارية وحين يصل التراكم الكمي للقهر السياسي والاجتماعي والاقتصادي إلى مستوى جديد, إلى كيفية أو نوعية جديدة. والعامل الخارجي في مثل هذه الحالات لن يكون سوى المشجع والمساند لا غير, أي لن يكون العامل الرئيسي بأي حال ضمن العوامل المحركة للشعوب. ندرك بأن التناقضات الاجتماعية والسياسية حين لا تجد حلولاً لها تتحول إلى صراعات سياسية واجتماعية متنوعة, وحين تصل إلى مرحلة معينة من التفاعل تتحول تلك الصراعات إلى نزاعات سياسية تكون أحياناً سلمية وأخرى عنفية أو مسلحة على وفق الحالة التي يمر بها كل شعب من الشعوب وأسلوب مواجهتها من جانب الحكومات. هذا ما تؤكده دراسات علوم الاجتماع والسياسة والأبحاث الخاصة بالنزاعات الداخلية وسبل فضها أو عواقب العجز عن حلها. إن ما يحصل في البرازيل اليوم يعبر عن غوص الحكومات المتعاقبة في غيها: فالبلاد غنية بشعبها ونفطها, ولكن استخدام وتوزيع الثروة ظالم وفاسد, فالبطالة سائدة والفقر واسع جداً والفجوة الدخل المتسعة بين طبقات وفئات المجتمع واسعة ومتسعة باستمرار في غير صالح الكادحين, والفساد منتشر ويقترب من حالة الفساد بالعراق, والموت على أيدي عصابات الجريمة المنظمة والمخدرات مستمر ومتفاقم والبذخ الحكومي والتفريط بأموال الشعب لا حدود له, وجاء أخيراً قرار صرف المليارات الكثيرة التي خصصتها الحكومة لتنظيم سباقات كرة القدم الدولية في العام القادم في وقت يتضور الناس جوعاً ولا سكن للملايين منهم يليق بالآدميين. لدى القناعة, ورغم الطائفية السياسية السائدة حالياً بالعراق, التي منعت وما تزال تمنع تحرك واسع لكل الشعب العراقي ضد حكامه, بأن الشعب العراقي الذي لم يمسح عن نفسه حتى اليوم غبار الخوف الذي ولده نظام البعث الدموي وصدام حسين في نفوس الناس, سيغسل هذا الغبار قريباً وينطلق ليكنس بنضاله من لا يريد الخضوع لإرادة الشعب ومن لا يريد الخلاص من الطائفية السياسية في الحكم ومن لا يتصدى للإرهاب الذي يقتل ويجرح ويعوق يومياً عشرات الناس الأبرياء في أنحاء شتى من البلاد, ومن لا يقف ضد الفساد لأنه هو الفساد بعينه. حين يكون الوعي الاجتماعي والسياسي ضعيفاً, وحين تسود الطائفية السياسية المقيتة في بلد ما, وحين يستخدم الدين "كأفيون" فعلي ضد توعية الشعوب بحقيقة أوضاعها وما يراد لها, يصعب حقاً تحرك الشعوب ضد مضطهديها وسارقي خبز يومها وناهبي ثروات أوطانها. لهذا لا بد من القول بأن المعركة الفعلية الدائرة اليوم تتركز في سبل مسح الغبار المتراكم على وعي الناس, غسل التشويه والتزييف الذي لحق به من جراء سياسات النظم السابقة وقوى الإسلام السياسي التي تجد في الوعي الطائفي السياسي استمراراً لسلطتها في حين ترى في وعي المواطنة والوطن خسارة وتهديداً لوجودها في السلطة وفي العمل السياسي عموماً. إن على القوى الديمقراطية والمدنية والعلمانية واللبرالية خوض النضال الفكري ضد الطائفية السياسية وضد الدمج بين الدين والسياسة, ولكن في الوقت نفسه, ربط ذلك بالعمل على تغيير الواقع الاقتصادي الذي يساهم بدوره في تغيير البنية الاجتماعية ومن ثم ومعه تغيير وعي الإنسان بشكل عام وإنقاذه من التزييف والتشويه اللذين يعاني منهما وعي الإنسان بالعراق وفي كثير من الدول الأخرى حالياً. سيكون النصر للشعوب وسيندحر الحكام المستبدون دون أدنى ريب في خاتمة المطاف, كما انتهى الكثير من النظم السياسية والحكام الأوباش, ولكن سيتسببون طيلة وجودهم في الحكم بمزيد من الدماء والموتى والقبور والآلام والكوارث والأحزان. لنعجل برحيل هؤلاء من خلال نشر الوعي والنضال في سبيل مصالح الشعوب والأوطان. |