مشهد يتكرر, وزير لوذعي مبتسم تنتصب قامته أمام إعلامي بليد ليبشرنا ببزوغ فجر جديد, وان شرياناً متدفقاً من شرايين الحياة قد هلّت بشائره في عالم زائف يرسمه كذاب ماهر بمنجزات أسطورية, فينتابنا إحساس إن لهذا الوزير لمسة سحرية أشبه بلمسة "ميداس" الملك الإغريقي الذي حظي بنفحة أسطورية تحول كل شيء أتت عليه يداه إلى ذهب إبريز, فيخفي هذا الوزير بجلسة دعائية كل مظاهر الفقر والبؤس المتفشية أمام الأبصار والبصائر, وما أن يختفي هذا الكذاب عن الأنظار حتى يطل عليك كذاب آخر يختلف عن سابقه في كل شيء,وكما قيل إن حديث الكذاب يعتريه من الاختلاف مالا يعتري الجبان من الارتعاد عند الحرب, فان الاختلاف في السرد مؤشر دامغ على الكذب, وللحقيقة وجه, وللكذب أوجه.
مؤشرات الكذب تختلف من وزير لآخر بعضهم يكذب لأجل الكذب لاستقطاب الأضواء, وبعضهم الأخر لأجل الخداع والتظليل, ولو أخضعنا أنموذجين من الوزراء مثل نائب رئس الوزراء "حسين الشهرستاني" ووزير التخطيط "علي الشكري" كعينتين عشوائيتين على التناقض والاختلاف في التعامل مع مشكلة خطيرة كمشكلة اتساع رقعة الفقر في العراق, واعتبار هذه المشكلة بمثابة جهاز كشف الكذب وحللنا ما صدر عن الوزيرين بخصوصها, فإننا نجد إن نائب رئيس الوزراء "الشهرستاني"أدلى بدلوه أمام إحدى القنوات الفضائية وأعلن إن نسبة الفقر قد انخفضت إلى (13%) وأضاف, إن هذه النسبة أضحت مؤقتة لوجودها على حافة الفقر, وما هي إلا فترة قصيرة ويختفي الفقر نهائيا في العراق, ولم يفصح صاحب بشارة "تصدير الكهرباء عام 3013" عن الخطط التي اتبعتها الحكومة في مكافحة الفقر لتنخفض إلى هذه الدرجة الحالمة إلا إذا كانت الحكومة قد اتبعت "النظرية المالثوسية" في مكافحة الفقر والتي تقضي بالتخلص من الفقراء بدلا من الفقر, فقاعات "الشهرستاني" الإعلامية سرعان ما تنفجر ويظهر زيفها للملأ وهو الذي لم يعد يخاف على سمعته ومصداقيته بعد أن حازه على جائزة التحرر من الخوف, ومع هذا فان مصيبتنا تتعاظم مع وزير التخطيط "علي ألشكري" الذي من مهامه إيجاد قاعدة بيانات دقيقة وصحيحة لتكون أساسا لوضع البرامج والخطط, وان ينأى بنفسه عن الكذب فمهمته لا تحتمل إطلاق الفقاعات الإعلامية "كالشهرستاني", فأعلن "ألشكري" عن تراجع معدلات الفقر في العراق خلال السنوات الماضية لتصل إلى نحو "18%", وهنا يؤشر جهاز كشف الكذب لاختلاف الأرقام بينه وبين "الشهرستاني" أولا وتناقض "ألشكري"مع نفسه ثانيا, حيث سبق وأعلنت الوزارة في "حزيران 2011" أن نسبة الفقر في العراق بلغت نحو "23%", وعادت وأصدرت تقريرا في "الـ27 من تشرين الثاني 2012" عن خارطة الفقر والحرمان في العراق أكدت فيه ارتفاع نسب الفقر وتجاوزها حاجز الـ"30%"، ومع اعتراف الوزارة في الـ"1 أيار 2013"، بفشل الخطة الخمسية التي وضعتها عام "2010" لمعالجة الفقر فلا ندري وفق هذه البيانات كيف نجحت الحكومة في خفض مستويات الفقر بهذه السرعة خلال العام الماضي إلى هذا الحد ومن دون تسجيل أي مؤشرات حقيقية على ارض الواقع تبرهن ذلك ومع فشل الخطة الخمسية ؟
ومع تباين أرقام وزارة التخطيط يتضح لنا إننا أمام عملية غش وتظليل خطيرة, يتلاعب وزير التخطيط بالأرقام وفق ما تمليه عليه بورصة العرض والطلب السياسي لأهم وزارة تعنى ببناء الدولة وخططها المستقبلية, وغالبا ما يعطي هذا الوزير أرقام مظللة عن العوامل المؤثرة في تحديد نسبة الفقر كالبطالة والمؤشر العام للأسعار ونسبة التضخم, ناهيك من إن تقرير وزارة التخطيط جاء مناقضا أيضا لتقرير نائب الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في العراق "جاكلين باد كوك" الذي صدر قبل شهر واحد من تقرير الوزارة, وأكد أن الأمن الغذائي في العراق هش وضعيف، وان ستة ملايين عراقي يعاني من انعدام الأمن الغذائي, وان واحد من كل أربعة أطفال يعانون من توقف النمو البدني والفكري جراء نقص التغذية المزمن, محملا التقرير الحكومة العراقية تقاعسها في وضع وتنفيذ خطط التنمية الضرورية لخفض مستوى الفقر.
الفشل في مكافحة الفقر واتساع رقعته مع ارتفاع حجم الإيرادات العامة من "40" مليار دولار عام "2006" إلى "114" مليار دولار عام "2013" وبنسبة زيادة أكثر من (285%) يظل أحجية لا يفك طلاسمها إلا ذوي علم مكين, ويؤشر اختلالا خطيرا في وضع السياسات الاقتصادية وهدرا صارخا للمال العام لا يمكن معالجته بالكذب, فلا يمكن للأكاذيب أن تمحق منظر بيوت الصفيح التي تنتشر في بغداد انتشار النار في الهشيم, ولا تزيغ الأكاذيب أبصارنا عن مجاميع الأطفال من باعة ومتسولين في زحام السيارات, لا فرص عمل توفرت, القطاع العام ترهل والخاص انقرض, ورواتب المتقاعدين على حالها, ويريدنا وزراءنا التصديق إن الفقر انخفض وسيزول !
|