سّحل الجثث يدوم

 

أن ينتهي القتل من العالم، هذا أمر مستبعد في الأفق القريب، لأنه لازال أمام الإنسان الكثير من الوقت ليدرك أن هذه السُّنة غير الحميدة التي تناقلتها الحضارات ليست قانوناً مسلّماً به وأنه من العار أن يتم التعامل مع القتل والتقتيل كجزء طبيعي من الحياة اليومية للشعوب. لكن هل هناك ثمة أمل ولو صغير أن ينتهي سّحل الناس أحياءً وأمواتاً والتمثيل بجثثهم؟ آخذين بعين التأمل الصورة المقيتة التي نعيشها ونشهدها في أزماتنا التي لا تنتهي، ولا يبدو أنها إلى انتهاء.

برأيي، بدأت المشكلة عندما تم التعامل مع قتل الإنسان وقتل الحيوان على أنهما أمرين منفصلين ومختلفين، فالفكرة في حقيقتها واحدة ومن يستوعب قتل الحيوانات يمكنه بسهولة لاحقاً أن يستوعب قتل الإنسان كأمر طبيعي وكسُنّة حياة، وهذا من أثبته التاريخ الذي وصلنا المكتوب منه والمحكي مشبعاً بقصص القتل الجماعي والفردي لأسباب مختلفة نجد لها سردا وتبريرا أكثر منه نقدا وتشريحا. ويتعامل التاريخ مع القتل على أنه قدر وضرورة ونتيجة طبيعية للصراعات أيا كان نوعها أو أطرافها. حتى أن التاريخ الديني (الإبراهيمي) يسرد وبكل أريحية قصة قتل أحد أبناء آدم لأخيه كنتيجة منطقية للصراع على أنثى أو لحقدٍ تملك أخ على أخيه بعد استفزاز من الله نفسه بتقبّله قربانا من الأخير ورفضه إياه من أخيه الذي تحول إلى قاتل لاحقاً (وكأن الله –العالم بالغيب وما سيكون- كان محرّضا رئيسيا لحادثة القتل). ويستوقفني أيضاً أن تكون طريقة قبول القربان الذي كان كبشاً هي بإرسال نار من السماء وحرقه، في إشارة خطيرة لترسيخ إرث مادّي عنفي صارخ يتعامل فيه الخالق بأسلوب الرشاوى والمادية في أدنى درجاتها: "من يقدّم قربانا أفضل يتزوج الأنثى الأجمل"، وفوق هذا "القربان المقبول يُحرق" لكن لماذا يُحرق وهو القربان الأفضل؟ سؤال بحاجة لتشريح عميق، لكنني لا أشك أن في هذا أيضا تم تمرير قصة قتل أخرى بطريقة سلسة، فالله هو الذي قتل الكبش هنا!

وفي قصة الفداء الشهيرة للنبي اسماعيل بالكبش عبرة أخرى. فالأب (النبي ابراهيم) لم يتورع أن يأتي بابنه فلذة كبده ليقتله قربانا لله، وكان على وشك ذلك فعلا (حسب السرد الديني للقصة) لولا أن الله افتداه بكبشٍ عظيم. ويُقتل الكبش هنا أيضا مما يتركنا أمام سُنّة محمودة بقتل الحيوانات من أجل التقرب إلى الله، فلا يفوتني أن أذكر أن الموضوع وصل إلى حد أن يكون أمراً إلهياً، ومثال ذلك أمر الله لبني إسرائيل أن يذبحوا البقرة. وهذا بالمناسبة ليس حكرا على الديانات الإبراهيمية، بل هو في أصله غالباً ليس أكثر من تقليد قبلي قديم في الحضارات الشرقية التي سبقت الديانات الابراهيمية. وهذا يدعونا للتفكّر فيما إذا كان تزاوج الحضارات وتناقل المعتقدات وتداولها عبر التاريخ هو المصدر الرئيسي لحقن فكرة القربان في الأديان التي نشأت لاحقا بحيث أصبحت جزءا من الإرث القصصي الديني، بل وطقوساً احتفالية معتمدة كعيد الأضحى في الإسلام. وبما أن الحيوانات لا تزال تُقتل فسيظلّ الإنسان يُقتل أيضاً وسيبقى مظهر الدم الآدمي وغير الآدمي مألوفاً لنا جميعاً.

لكن السؤال الأصعب، كيف أصبح سّحل الجثث والتمثيل بجسد الإنسان بعد قتله شيئاً مألوفاً؟ والملفت أن هذه الممارسة الوحشية بانتهاك حرمة جسد الإنسان و امتهان كرامته ليست خاصة بجماعة دون أخرى، وانما متفشية كثقافة في شرقنا بصرف النظر عن الجنسية واللون والدين وبصرف النظر عن الأسباب التي تبدأ فقط بكون الآخر مختلفاً وتنتهي باتهامه بجُرم ما يبيح دمه ويعطي لمنكّليه الحق بأن ينتهكوا جسده حيّا وميتا للدرجة التي تمكّن أحدهم من استئصال قلب القتيل وأكله كما حدث في سوريا مؤخرا حيث ظهر آكل القلوب في حالة نشوة متباهيا فخورا متلذذا بطعم القلب الذي قضم منه عدة مرات أمام عدسة الكاميرا. ما نراه هو أن الكل ينكّل بالكل أينما استطاع إلى ذلك سبيلا. فقد شهدنا أيضا ً كيف عومل القذافي أثناء وبعد قتله والتنكيل به من قِبل من ثاروا عليه لظلمه وبطشه، وشهدنا قبل يومين فقط كيف قام شاب مصري بسحل (جرّ) جثة مصري آخر بدراجته النارية وسط هتافات وتكبير وتهليل آخرين تجمهروا ليحتفلوا بجثّة إنسان من دمهم ولحمهم وهي تتمزق. وشهدنا كيف تعامل الحمساويون أثناء وبعد قتالهم على السلطة في غزة وكيف قاموا بنفس الممارسات التي كانت تُرتكب بحقهم أثناء سيطرة "فتح" على القطاع. فما لبثوا أن سيطروا على غزة حتى بدأت قصص التعذيب والتنكيل بالسجناء السياسيين (الفتحاويين) على غرار ما كانت تفعله أجهزة أمن فتح بسجنائهم في السابق. ولا زلت أذكر كيف ألقى أحد أفراد حماس بشخص من سطح بناية عالية أمام عدسات الكاميرا أيضا. ولا أنسى أن حماس (الجماعة المتدينة التي تتخذ من الإسلام ملهما ومشرّعا) تعاملت مع الذين اتهمتهم بالخيانة بنفس الطريقة التي تعاملت يها فتح مع من اتهموا بنفس التهمة، فكان مصيرهم في الحالتين هو التعذيب والقتل بدون محاكمة عادلة وفقء عيونهم أحياء واقتلاعها بعد موتهم وسحل وتعليق جثثهم على أعمدة الكهرباء، أيضا وسط تهليل وتكبير الشارع وتجمهُر الشبان عند الجثث والبصق عليها قبل أن يُسمح لذويهم إنزال جثث أبنائهم لدفنها أينما ينبغي لجسد الإنسان أن يكون بعد موته. وهذا المشهد هو نفسه الذي يمارسه البعض في سوريا وغيرها هذه الأيام بتهمة الكفر وغيرها (وهي التهم التي يعلنونها لتعطي "شرعية" لأفعالهم). ومن باب التذكير فقط، فقد عومل الحسين وعبد الله بن الزبير بنفس الطريقة على أيدي إخوة لهم في الدم أيضاً في سابق عهد العروبة، فسَحل الجثث والتمثيل بها ليس جديدا على الثقافة العربية في الحقيقة. إلا أنني يجب أن أذكّر مرة أخرى أن السحل ليس ثقافة عربية أصيلة، فملحمة طروادة اليونانية الشهيرة مثلا فيها من سحل الجثث وأكلها أو تركها للكلاب لتأكلها وغيرها من حوادث التنكيل والوحشية الكثير. ومعظمنا يعرف قصة سحل تشاوشيسكو رومانيا بعد الانقلاب عليه في ثمانينات القرن الماضي. 

إذن فالسحل يعتبر ممارسة مألوفة في يد من لديه السلطة أو القوة وقت الأزمات والحروب، بل وتجد الناس يتداولونه كأمر لا بد منه ويهددون به في حالات يظنون السحل فيها ضرورياً لردع وتخويف وإخراس الآخر لما يحويه هذا العقاب من إمعان في إذلال النفس البشرية وامتهان كرامتها وانتهاك حرمتها، وهذا كفيلٌ بأن يفكر هذا الآخر ملياً كي لا يلقي بنفسه ضحية لمثل هذا "العقاب". فليس صعباً أن ندرك أن هدف التعذيب (وهو أن يُمارس التعذيب والتنكيل بحقك أنت كشخص أو أن ترى شخصا آخر يُعذب أمامك) هو إخضاعك لإرادة من يقوم بالتعذيب. فالتخويف من العذاب هو المفتاح في يد المُتنفِّذ. وبهذا كله يمكنني أن أخلُص إلى أن انتهاء ثقافة السحّل كممارسة لا إنسانية بشعة بغيضة ليس في القريب أيضاً، وستدوم ما دامت ثقافة القتل قائمة.