عراقيون ولكن غرباء |
لم تعد العزلة بين كرد العراق وعربه وحدها المشكلة. نحن في مواجهة مشكلة أخرى مسكوت عنها، وتتمثل في انعزال جيل من عرب العراق عن مجايليهم من أبناء قوميتهم العراقيين. لقد كان من مفاجآت 2003، وبعد عودة ارتباط محافظات إقليم كردستان بدولتهم العراقية عبر سلطاتها المركزية، هو ملاحظة أن جيلاً جديداً من ابناء المحافظات الكردية أضحت علاقته شبه منقطعة عن العراق، وكانت المغنية الكردية برواس حسين في برنامج عرب آيدل تعبيراً شديد الكثافة عن مثل هذا الحال. لم تكن اللغة هي المشكلة المباشرة، لا مشكلة سياسية مع نشوء جيل كردي لا يعرف اللغة العربية، فكثير من الفيدراليات القومية تعيش مثل هذا الحال. مشكلة خسران أية لغة هي مشكلة ثقافية غالباً ما يكون ضحيتها خاسر اللغة نفسه.. الآن لو أتيح لي أن أبدأ تعلمي من جديد لتعلمت كثيراً من اللغات. كل لغة، ومن بينها لغة الأخوة الكرد، هي كنز وربح يستثمره المتعلمون بكيفيات كثيرة، وعدم التعلم هو الخسارة. جهل الأجيال الكردية الأحدث باللغة العربية ليس مشكلة سياسية، ولكنه تعبير عن مشكلات ما تفعله السياسة بوجهها السيئ وما تؤدي إليه من خسائر وأعراض. لكن قطيعة السنوات العشر بين الإقليم والوطن أظهرت مشكلات كثيرة، كان من بينها ضعف الترابط الاجتماعي بين المكونين العربي والكردي عما كان عليه في العقود السابقة، ونشوء مشاعر الاغتراب حينما يكون المرء العربي في محافظة كردية أو يكون المرء الكردي في محافظة عربية.. أذكر هنا واقعة تعود إلى الثمانينيات حين طلبت مني عائلة فقيرة من اقربائي أن استغل أيام اجازتي، وكنت حينها جندياً في العمارة، لأذهب للبحث عن مصير ولدهم الجندي في السليمانية والذي لم يعد لهم وانقطعت أخباره منذ ستين يوماً. حين ذهبت إلى السليمانية كنت ضيفا في بيت عائلة كردية كان أكثر من واحد من أفرادها بيشمركه معارضاً، وكان الجو مفتوحاً بيننا لنتحدث بحرية، باعتبار الطرفين ضحايا. وفي اليوم التالي كان الأب الشيخ دليلي في المناطق الكردية بحثاً عن وحدة قريبي الذي لم يعد لأهله إلا بعد سنوات أسيراً من إيران. لم أشعر يومها بالغربة في البيت الكردي ولم تكن هذه بالظاهرة الاستثنائية، لقد كان هذا هو الطبيعي المعتاد حتى مع جنود كانوا هناك بدوافع قتالية، لكن البيوت الكردية كانت مفتوحة أمامهم بلا عقد ولا مشكلات، ويحدث الشيء نفسه مع الكرد حين يكونون طلاباً أو موظفين أو جنوداً أو منفيين في محافظات الوسط والجنوب. هذه المشكلة التي نجمت مع انقطاع محافظات كردستان خلال السنوات العشر قبل 2003 عادت فغذتها ونمّتها ظروف العنف ما بعد ذلك العام التي لم تسمح ليس بالتزاور والعلاقات الاجتماعية حسب وإنما حتى بنشوء مصالح عمل وارتباطات أخرى مما أبقى مشاعر الغربة لتتزايد وتتضخم. لقد مضى ما يقرب من العشر سنوات بعد 2003 ومع هذه السنوات نمت وكبرت مشكلة أخرى ما زال مسكوتاً عنها، هي غير مشكلة الصلة بين كرد العراق وعربه، إنها مشكلة بين العرب أنفسهم، بين محافظات ذات مكون معين ومحافظات أخرى بمكون آخر.. شخصياً لم يتح لي أن أزور الموصل منذ عام 2000، ولم أزر الرمادي.. اصدقائي هناك أتواصل معهم بما تتيحه وسائل الاتصال من سبل.. لكن جيلاً جديداً نشأ وهو لا يعرف شيئاً ليس عن المدينة التي لم يزرها وإنما حتى عن طباع وتقاليد ناس تلك المدينة، إنهم ناس غرباء بالنسبة لأي فرد من هذا الجيل الناشئ في المحافظات العربية المنقطعة عن بعضها، ولم أرد القول بأكثر من غرباء. وفي المحافظات المشتركة بلغ الانقطاع مستواه الأبشع بالنسبة لهذا الجيل الجديد الذي لا يعرف الشخص منه الساكن في الحي (س) في بغداد طبيعة الحي (ش) في بغداد وطبائع أهله. لا تكفي اللقاءات في الجامعة أو أماكن العمل لتوطيد العلاقات وكسر الحواجز التي ربما تتضخم في الجامعة نفسها ومكان العمل نفسه فينعزل أبناء أحياء المكون الواحد مع بعضهم عن زملائهم من ابناء أحياء المكون الآخر، وهذه كارثة تعمق المشكلة وتلقي عليها ظلالاً ثقيلة. ولآني من جيل عاش وكبر في الحياة المشتركة، فإني الآن أتمكن في مكان عام مختلط، كالمطار مثلاً، أن أتلمس مظاهر للانعزال واضحة على سلوك الأفراد في هذا المكان وخصوصا الشبان الجدد، حيث يجري التراجع عن اللهجة البغدادية المشتركة لصالح إحياء لهجات الأصل، الأصل الوافدة منه العائلة، وما أكثر الوافدين على بغداد من الغربية ومن الجنوب، كما يمكن تلمس مظاهر أخرى للانعزال، تتجلى في السلوك والملابس والأشكال، وبما يسمح بالتخمين. وما آمله الآن هو أن تكون هذه الصورة التي أرسمها فيها حساسية ومبالغة رجل متوجس أكثر من أن تكون تعبيرا عن واقع حال، ولكن من واجب كثير من الجهات المدنية والحكومية أن تضع هذا بنظر الاعتبار لتعمل ما يمكن عمله قبل فوات الأوان. الحرص على الوحدة الوطنية لا يوجب اغفال مظاهر قد يسمح نموها بتمزيق هذه الوحدة.. تلك هي أخلاق الدكتاتوريات في فرض الصمت أمام المشكلات وطمرها وتأجيلها.. مواجهة المشكلة وتشخيصها هما أول سبل الوصول إلى حلها. |