الفصل السابع وسراب التكييف

 

ثلاثة وعشرون عاماً مضت على وضع العراق وشعبه خلف قضبان الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وهو يتطلع، اليوم، إلى بضع كلمات، تفوه بها الأمين العام للأمم المتحدة، السيد بان كي مون، في الأيام القلائل الماضية، وهو يزف البشرى، بأن القضبان ستنحني، والقيد سينكسر، وسيزول الفصل السابع، ويطلق سراح الشعب العراقي من سجنه المؤبد. ولكني لم أسمع إلا صوتاً واحداً، هو صوت الشعب، يدوي صرخة واحدة: ما قيمة أن يبقى، أو أن يذهب، الفصل السابع، وهو جاثم، كالسلحفاة، منذ عهد بعيد، طالما أن الزمن التأريخي، في حياة الأمة العراقية، بات لا شيء بالقياس إلى الزمن الكوني، بعد أن طُبخت الأمة، واستوت آمالها، في اللاشيء من التقدم.

لقد منحنا سرابُ الفصل السابع، طوال العقدين الماضيين، شيئاً من العلاقات الدولية، تكيف فيها العراق، في مداخله ومخارجه، وباتجاهين مختلفين، تمثل أولهما بخلق نشاط اقتصادي هيلامي، وظيفته إدامة العيش خلف القضبان، عبر برنامج تجهيز إبان الحصار، سُمي ببرنامج (النفط مقابل الغذاء)، في العام 1996. وقد وُضعت إيرادات مذكرة التفاهم لبرنامج (النفط مقابل الغذاء) في حساب حصري مغلق، تحت تصرف الأمين العام للأمم المتحدة، وحده لا غيره، في البنك الفرنسي في نيويورك، المسمى (PNB باريباس). وتزامن، مع التوقيع على مذكرة التفاهم وتأسيس الحساب، إنشاءُ صندوق الأمم المتحدة للتعويضات، بموجب القرار (687)، في العام 1996.

وهكذا، أتاحت هذه الآليةُ للأمين العام للأمم المتحدة، حصراً، التصرف بموارد حساب النفط العراقي المصدر بموجب المذكرة، بعد استقطاع ما لا يقل عن 30%، من كل برميل نفط عراقي مُصدر، يستوفى تعويضاً عن حرب الكويت، وقد حُدّد مبلغ التعويضات بحوالي 53 مليار دولار، فضلا عن استقطاع 4% أخرى، لسد نفقات فرق التفتيش الدولية، التي كانت تبحث عن أسلحة الدمار الشامل في العراق.

وعلى الرغم من أن ذلك الحساب سد بعض عوز الشعب العراقي وحاجاته الاستهلاكية الغذائية الماسة، بقيت الحاجة دون الحد الأدنى، بإزاء تدهور مستوى المعيشة وارتفاع خط الفقر. عاش، في ظل هذا الحساب، أكثر من ثلاثة أرباع سكان العراق، لتنتهي البلادُ، بموجبه، إلى مستنقع من التخلف، والضياع، والدمار، تعاظمَ مع فساد البرنامج الأممي نفسه، الذي عُدّ واحداً من أفسد البرامج في الاقتصاد السياسي الدولي المعاصر، بسبب سوء الإدارة، والرشى، وفساد عقود التجهيز، فعلى سبيل المثال، لم أتصور، في حياتي، أن كتابا جامعياً، في مبادئ الاقتصاد، للكاتب الاقتصادي المخضرم بول ساملسون، يصل إلى العراق، على حساب برنامج النفط مقابل الغذاء، في أواخر تسعينيات القرن الماضي، وكلفة استيراده 300 دولار أمريكي للنسخة الواحدة، التي لم تكن لتبلغ، في الأحوال الطبيعية، 30 دولاراً. هكذا كانت تمول احتياجات العراق.

أما الاتجاه الآخر فتمثل في تسويغ استخدام القوة العسكرية، والتمهيد لاحتلال العراق، بعد أن أقر مجلس الأمن تكييفا للأوضاع، في قراره المرقم (1441)، في العام 2002، الذي لخص مشكلة حرب الكويت وأسلحة الدمار الشامل، التي جاءت في قراراته السابقة، ليمهد استعمال المواد (41)، و(42)، و(50)، من ميثاق الأمم المتحدة، التي تبيح استعمال القوة في إطار ما يهدد السلم والأمن الدوليين. وإذا كانت هذه هي معالم المدخلات والمخرجات، الاقتصادية والعسكرية، التي تكيف فيها العراق تحت مظلة الفصل السابع، قبل 9 نيسان 2003، فإن تلك المعالم أخذت أشكالا مختلفة بعد التأريخ المذكور، الذي تمثل باحتلال العراق عسكرياً، والتبدلات التي تعرضت إليها معالم الدولة والحياة السياسية والاقتصادية، فبدلا من إلغاء الفصل السابع، دخل العراق بسراب ذلك الفصل، وبامتدادات وسعات أخذت تناسب الأوضاع العسكرية والاقتصادية الجديدة، من دون أن يخرج العراق من قيد هذا الفصل، وظل ينُظر إلى بلادنا بأنها لا تزال معتدية على السلام العالمي، على الرغم من احتلالها، واستسلامها، وتبدل معالمها، السياسية والاقتصادية، ومضيها في طريق السلام.

وقد ولد هذا الأمر (استمرار سراب الفصل السابع) نتائج اقتصادية هجينة، في تركيب نمط الاقتصاد، وإشكالية النظام الاقتصادي، وعلاقاته الدولية التي يتعاطاها العراق، لكونه بلدا من بلدان المخاطر الاستثمارية العالية، على الرغم من تمتعه بفوائض اقتصادية نسبية، فعلية وممكنة. ولم تجنِ البلاد سوى انفتاح ليبرالي، تجاري ومالي، واسع، غير أنه لم يتعد، في نطاقه، الوسط الإقليمي المحيط بالعراق، أو أجزاء من أسواق آسيا الاستهلاكية، لإشباع نواقص الاستهلاك، والتعويض عن منتجات كان يعوضها الاقتصاد المحلي في ظروفه الطبيعية.
وهكذا، ظلت التكنولوجيا المتقدمة شبه محرمة من دخول البلاد، ولم تبادر شركات المقاولات الدولية، التي تنهض بالاستثمارات المتعلقة بالبنية التحتية، بدخول العراق، ولم تستجب لمطالب العراق الإنمائية، على الرغم من مغريات فرص العمل، لكونها تنظر إلى نشاط الأعمال بعين الريبة وقوة المخاطر التي يفرضها الفصل المذكور. ويلحظ، على سبيل المفارقة، أن مذكرة النفط مقابل الغذاء أمست المنفذ الوحيد لشركات النفط الأجنبية في الاندفاع نحو تطوير حقول النفط والاستثمار فيها، ضمن جولات التراخيص، لسلامة الوضع القانوني في مجالي التكنولوجيا والتحكيم، في وقت حُرمت البلاد من هذا الاندفاع في مجالات لا تقل أهمية في تقدم الحياة الاقتصادية والتنمية، ولاسيما، على سبيل الحصر، قطاعات الكهرباء، والصناعة، والتكنولوجيا، والترابطات ذات العلاقة. ومن حسن الحظ، نجا إقليم كردستان من هذا الإجحاف، وفق استثناءات، بسبب قدرة الإقليم على توفير الإدارة الذاتية، بعد العام 1991، وأن يحكم نفسه بنفسه، مما سهل لكردستان قدم السبق في استعادة بناها التحتية الأساسية، بما في ذلك الطاقة الكهربائية، التي كانت تفتقر لها لعقود طويلة من الزمن.

لقد استُقطب حراك التنمية في العراق، وانحدر نحو حافات هشة، بسبب الحواجز التي وضعها الفصل السابع، بخفة ومرونة غير مرئية، وبسراب عال، منذ 9 نيسان 2003 وحتى الوقت الحاضر، الأمر الذي جعل البلاد ورشة عمل متعطلة، تنتظر الحصول على الطاقة الكهربائية، ومستلزمات نهضتها، في وقت توافرت سيولة بالعملة الأجنبية ملائمة، ربما لا تقل، اليوم، عن مئة مليار دولار.

ولكن، يبقى هناك معوق ومانع دولي، يقف حائلا أمام تقدم العراق، وهو سراب الفصل السابع، فقد استمرت التنميةُ تزحف خلف ليبرالية السوق، التي ينبغي ألا تتعدى استيراد مفرداتها، ما كانت توفره مذكرة التفاهم، وهي، هذه المرة، استيرادات مغلفة بالحلوى، ووسائل المتعة، والاتصالات، وهي كثيفة الاستهلاك، قليلة الإنتاج، والقيمة المضافة. إنه نمط إنتاجي خطير، لا يتطلع إلى الإنتاج، بل ينكفئ خلف قضبان الفصل السابع الاستهلاكية.

من المفارقات اللافتة الأخرى، التي تكيف إليها الفصل السابع في سرابه بعد مايس 2003، هي قرار مجلس الأمن رقم (1483)، الذي أُنشئ بموجبه (صندوق تنمية العراق DFI )، تحت رقابة الأمم المتحدة، حيث صَممت آليةٌ مصرفية، سميت (OPRA)، استقطاعَ نسبة 5% من عائدات النفط، والمنتجات النفطية، والغاز المصدر من العراق، الذي تودع أقيامه في هذا الصندوق، الذي هو عبارة عن حساب مصرفي لدى البنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، بعد أن تم بموجبه تحويل بقايا مبالغ مذكرة التفاهم، وأية أرصدة عراقية مجمدة بموجب إجراءات الحصار، وجرى تحريرها من المصارف الدولية. الشيء الذي تبدل في هذه المرحلة، مقارنة بمرحلة مذكرة التفاهم، أن عوائد النفط انتقلت من المصرف الفرنسي إلى المصرف الأمريكي، وان التصرف بها انتقل من يد الأمين العام للأمم المتحدة إلى (المجلس الدولي للرقابة والإشرافIAMB )، وهو لجنة مؤلفة من ممثلين من الأمم المتحدة، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للجامعة العربية، وربما هناك ممثل لوزارة المالية العراقية فيه، ويتولى المجلس المذكور، الذي أُنشئ بموجب القرار (1546)، في العام 2004، أداء مهمتين، هما: إن الأموال، المسحوبة من (صندوق تنمية العراق) تصب في مصلحة الشعب العراقي، وإن استيراد النفط العراقي وتصديره يتم وفق أفضل الممارسات في التجارة الدولية. ومن هذا المنطلق، فإن الحماية على أموال العراق، من دعاوى الدائنين التجاريين القضائية، ممن لم تجر تسوية مديونيتهم مع العراق بموجب اتفاق نادي باريس، لا يمكن لهم إجراء الحجز القضائي على تلك الأموال، بموجب هذه الآلية الحمائية، وهو أمر جاء امتداداً لما كان عليه حساب مذكرة التفاهم.

وبهذا، لم يبتعد قرار مجلس الأمن، المرقم (1956)، في 15 كانون الأول 2010، عن هذا الخط، فقد انتهت بموجبه الوصاية على أموال (صندوق تنمية العراق)، الممثلة بـ (المجلس الدولي للرقابة والإشراف)، ولكن، انتهت، في الوقت نفسه، الحمايةُ الدولية على تلك الأموال، وإمكانية تعريضها لمخاطر الدائنين التجاريين، والحجوزات القضائية، وقرارات المحاكم التي بحوزتهم . وكان على العراق أن يصفي حساب (صندوق تنمية العراق)، شريطة أن يضمن آلية دفع 5% تعويضات إلى صندوق الأمم المتحدة الخاص بحرب الكويت ضمن حساب مفرد. إنها معضلة بناء حساب جديد، وآلية أخرى، في ظل عدم توافر الحماية الدولية، على نحو ما أرادها قرار مجلس الأمن السالف الأخير، ولم تتوافر أمام العراق، بإزاء هذه الحراجة، إلا الفرصة التي قدّمها الأمر الرئاسي الأمريكي، بموجب قوانين الطوارئ، الذي نصّ على حماية أموال العراق في الحساب المذكور في أراضي الولايات المتحدة، بما ينسجم وتأريخ نفاذ قرار مجلس الأمن رقم (1956)، المشار إليه آنفاً، والذي أصبح ساري المفعول في 30 حزيران 2011. وهكذا، وفرت الولايات المتحدة مثل هذه الحماية، بموجب الأمر الرئاسي وقرارين مماثلين، غطت فيهما الحمايةُ الأميركية أموال العراق خلال السنوات 2012 ـ 2014.

ومن صفوة الكلام، ربما سيخرج العراق من طائلة الفصل السابع، في المدة القريبة القادمة، ونغادر، نحن شعب العراق، قضبانَ ذلك الفصل المعادي للتنمية والتقدم، ونحن نتطلع إلى واحة الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة، وهو الفصل المعني بالسلام والتقدم، ومن ثم طي صفحة الحروب. وهنا، لا بد أن تتحقق القدرة على استعادة الطاقة الكهربائية قبل غيرها، كي نلمس حقيقة أن توقف كهربة العراق كان سببه قيود الفصل السابع، وقواه الخفية العمدية، التي حرمت البلاد من الحصول على تكنولوجيا الطاقة وولوج التقدم والتنمية.

وأخيرا، إن ما جرى لهذا القطاع الحيوي هو ثمن سراب الفصل السابع ومسكناته، منذ 9 نيسان 2003، الذي ولّد لنا، للأسف الشديد، بلادا خالية من الصناعة والتكنولوجيا، شديدة الولع بالمنتجات الاستهلاكية الجاهزة، كي نأكل حتى ننام، من دون مستقبل يذكر. إنه الفصل السابع. إنها لعبة الأمم.