قبل أعوام , نشرتُ مقالة عن قيمة الجمال في حياتنا , فظهرت في العديد من المواقع والصحف , منقولة عن الموقع الذي نُشِرت فيه. وقرأت الكثير من التعليقات الإيجابية عليها من قبل الأخوة القراء. وفي أحد المواقع وجدت أحد الأخوة ينسفها نسفا , ويتحدث عن الجمال الإفلاطوني , وقد أغرق في استعاراته من الكتابات الإفلاطونية , وحسب الجمال هو ذاك , وغيره لا يحسب جمالا أو يقترب منه بشيئ , وأمعن في الجمال الإنثوي الذي لا يرى قيمة ومعنى للجمال بسواه. وقد راعني منهج تفكير الأخ القارئ في هذا الخصوص , ونبهني إلى منهج تفكيرنا العام الذي نعيشه يوميا , ونعبر عنه في تفاعلاتنا مع بعضنا. ومفاد منهجنا الذي أمضينا حياتنا عليه , أننا ننكر الواقع ونقلل من قيمته وتأثيره ودوره , وننأى بأنفسنا وأفكارنا ورؤانا إلى فنتازيا أحلام اليقظة , بعيدا عن المجابهة الخلاقة له , وحل مشاكله بأسلوب علمي وتعامل عقلاني جماعي مفيد. مما أدى بنا إلى ترحيل المشاكل من جيل إلى جيل , وتراكمها في دروب مسيرتنا لنتعثر بها دوما , ونفاقمها ولا نعرف لها مخرجا أو حلا. فواقعنا أمر بعيد , لا نواجهه ونتجاهله ولا نعرفه , وتلك مصيبة حياتنا , ومعضلة وجودها المعاصر. فالأمم قد واجهت واقعها , وخرجت منه بحلول مفيدة لمشاكلها , وتعلمت من خلال مواجهاتها المبدعة مع واقعها , مناهج تفكير جديد , فوضعت أسس التفكير المتقدم , الذي مضت عليه أجيالها وحققت قفزات كبيرة في الحياة. بينما نحن مثل الأخ القارئ العزيز , نهرب إلى الخيال والفنتازيا , وإلى التأريخ الذي ما هضمنا درسا من دروسه , ولا اعتبرنا به , مثلما تعتبر الأمم والشعوب بماضيها. وعندما نتصدى لموضوع الجمال في حياتنا , وضرورته لتهذيب سلوكنا وبناء مستقبلنا , لا نركن إلى مفردات الواقع وأدوات الممكن , بل يكون اقترابنا منفعلا , ومشحونا بالعواطف السلبية , الفائقة القدرة على الدمار والخراب , لأنها بلا بوصلة تحدد مسارها وتحقق غايتها. فحينما نرى الأزبال مركونة في شوارعنا , لا نفكر بوسيلة للخلاص منها , وبناء ميكانيكية عمل يومي تؤدي إلى إزالتها بأسلوب متواصل ومنظم , يحافظ على نظافة الشارع والمحلة والمدينة. بل نلجأ إلى نكرانها واستلطافها وإسقاط أسباب ذلك على الحكومة والدولة , وكأننا لا شأن لنا بها , ولا هي التي ستتسبب في إصابتنا بالأمراض , وتكون مواطن لتكاثر المخلوقات الضارة بالصحة العامة. فنحسب الجمال شيئا آخر , ومنهجا بعيدا عن قدرتنا في التحقيق الواقعي , ولهذا نلجأ إلى الفنتازيا الكاذبة , التي تذيقنا علقم الضياع والخسران. فهل من المفيد أن نزيل الأزبال أم أن نتحدث عن الجمال الإفلاطوني؟ وهل من المفيد لنا , أن نسعى جميعا إلى تربية أذواقنا , وتحقيق مساحة طيبة من تقدير الجمال في محيطنا وسلوكنا مع بعضنا, أم أن نلقي باللوم على غيرنا. "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده , فإن لم يستطع فبلسانه , وإن لم يستطع فبقلبه , وذلك أضعف الإيمان" أليس القبح منكرا , والقبح يشمل جميع مناحي الحياة , فالسلوك قد يكون قبيحا , والبيت والشارع والمدينة , وكل بقعة في محيطنا وما يصدر عنا. فتراكم الأزبال في شوارعنا وأمام بيوتنا منظر قبيح , تنكره معايير العصر. فمن الحضارة والتقدم , أن يكون أسلوبنا جميلا في تعاملنا مع بعضنا , وفي اختيارنا لكلماتنا , ومن المهم أن يكون مظهرنا جميلا , وطلعتنا بهية بهيجة , لأنها تمنح السرور للآخرين. ومأ أجمل أن نكون في غاية اللطافة والظرافة مع بعضنا البعض. ولماذا لا نهتدي بالمعاني الكبيرة في الحديث النبوي , التي تحثنا على رفض المنكر أيا كان نوعه, ولماذا لا ندين القبيح , ونغيره بالعمل إذا استطعنا وفي القول أيضا, أما موضوع القلب , فأن فيه إشارة تربوية كبيرة , تساهم في تربية الشخص لنفسه , لأنها تؤكد فيه قيمة وعي المنكر وضرره , فيتجنب فعله ويأتي بما هو صالح وجميل. ولو أن كل واحد منا قد رفض القبح في قلبه , وتأمله بعقله , لأثر ذلك على سلوكه وجعله يبدو جميلا في كل ما يبدر منه. "إن الله جميل ويحب الجمال" فأين نحن من هذه المعاني الحضارية , والأفكار المعاصرة التي ترفع الإنسان إلى مرتبته , وتجعل منه مخلوقا منيرا في الأرض. ومن غرائب وضعنا العام , أننا قد عجزنا على توفير الحمامات والمرافق الصحية "المراحيض" النظيفة والجميلة. ولازلنا نمتلك أقبح وأوسخ المراحيض في الدنيا. وبمقارنة بسيطة بين دولنا والجارة تركيا, سيستغرب الزائر من جمال ونظافة المراحيض والمرافق الصحية. وعلة ذلك أن الأخوة الأتراك يقدرون الجمال ويعلون شأنه, بينما نحن نبخس قيمته. فالنظافة والجمال متوافقان , لأن الجميل نظيف والنظيف جميل. وعليه فأننا بحاجة إلى ملامسة واعية وعملية جادة مع واقعنا , ولا نحتاج إلى تفاعلات خيالية وذات طاقات فنتازيا عالية , وهذا ينطبق على شؤون حياتنا بأسرها. فترانا في عالم السياسة لم نتعظ من تأريخنا , ولم نتعلم , مثلما فعل الصينيون بالإستفادة من تراث حُكمائهم , وتسخيره لبناء بلادهم وقد نجحوا أعظم نجاح, وكان من الأحرى بنا أن نفوز على الدنيا في كل شيئ , لثراء ما عندنا من الحِكم والتجارب, لكننا أحرقناها في نيران جهلنا وتجاهلنا ومطارداتنا للسراب. فشكرا للأخ القارئ الذي غمرني بفنتازيا وجودنا الفتان!!
|