المارد العربي والصراع المذهبي

 

لا جدال أن الواقع الإنساني في تغير دائم ومستمر وفق ما تتطلبه الحاجات وما يتوصل إليه العقل البشري من ابتكارات في مختلف الحقول المعرفية. ويمثل التغير الحالة الطبيعية التي نخضع لقوانينها على جميع المستويات، لكن في المقابل لا بد أن تحدد مجتمعاتنا مسارات صحيحة تجنبها الضياع في اعصار التقلبات الذي زادت حدته في السنوات الأخيرة، وأخذ طابعاً راديكالياً يسير باتجاه معاكس للتقدم العلمي الحاصل في البلدان المنتجة للصناعة والمعرفة.
كانت الأجيال العربية في القرن الماضي تتغنى بقوة المارد العربي خلال انتشار الأفكار القومية التي لامست عواطف الجماهير. ويعد العمل الفني الذي قدمه الموسيقار فريد الاطرش مع الشاعر حسين السيد معبراً حقيقياً ليس فقط للنظام السياسي وإنما لما يحمله الاحساس العربي الذي اشتركت فيه أغلب شعوب المنطقة، بغض النظر عن التوجهات الشوفينية التي سيطرت على مقاليد الحكم في تلك الفترة. وبسبب هذه التوجهات تحولت الثقافة العربية من نهج فكري وحضاري لشعوب الشرق تؤدي دورها الإنساني في العالم الى استبداد وانغلاق للآفاق فسح المجال أمام بذور الجهل والرجعية للإنتشار بين أبناء الأمة لتفرض مفاهيمها وإملاءاتها الخاصة. 
غاب عن بال الكثيرين أن ماردنا العربي لم يكن مارداً حقيقياً بل مجرد شعار نقنع فيه أنفسنا بأننا متفوقون في ظل التنافس الحضاري بين الأمم المتقدمة. فلم يصحو المارد من سباته الطويل ولم يكن مارداً إلا في الخيال أو الطغيان السياسي الذي يعطي هالة قدسية لأصحاب القرار في عالمنا العربي. وضاع هذا المارد في غياهب الجهل والتطرف المذهبي والفئوي وهو يحاول أن يعبر عن كينونته الهشة. فها هي أحداث الشرق الأوسط تتوسع فيها دائرة الخطر ولا تقتصر على الساحة السورية والعراقية، حيث يجد لبنان نفسه أمام منزلق خطير خصوصاً بعد تفجر الوضع في مدينة صيدا الذي يهدد بقية المناطق في عموم لبنان. كذلك ما يجري في مصر من إشكالات سياسية وفكرية تسهم بشكل فاعل في تحطيم الإرادة العربية الساعية الى رفد مجتمعاتها بمنجزات ملموسة على أرض الواقع وليس مجرد خطابات حماسية فارغة المحتوى. 
العالم ينهض وماردنا إن نهض من نومه، ينطلق باتجاهات هدامة تبدد طاقاته وتسطح تطلعاته ولن يجد نفسه إلا في أحضان الأمية والتعصب والتبعية العمياء التي تثير شجنه بشكل سلبي وتغلق منافذ عقله المحدود. 
لماذا نندفع صوب عواطف ونغني للشعارات فقط ؟ لماذا لم نصنع من الأغاني الحماسية والوطنية التي تلهم السامعين بجمال موسيقاها وقصائدها مجداً حقيقياً على أرض الواقع، خصوصاً وأنها جائت بفترة زمنية فيها ذائقية جماهيرة عالية تجاه الفن والإبداع في الميادين كافة ؟
قد يشير البعض الى أن الشعوب العربية لم تأخذ فرصها نحو الرفاه والتقدم باعتبارها تتعرض لضغوط خارجية. لكن ما شهدناه من حراك على الساحة السياسية العربية في السنوات الأخيرة يؤكد أن الفرص تأتي وفق المتغيرات التي تحدثنا عنها. 
خسرت اليابان عمرانها ومؤسساتها في الحرب الثانية وأصبحت أرضها خراباً وانهارت تشكيلاتها العسكرية كافة، لكنها لم تخسر عقلها البشري الذي استطاع خلال فترة قياسية أن يقدم نموذجاً حضارياً دان له احتراماً وتقديراً الجميع بما فيهم الدول التي وضعت قيوداً لهذه الجزيرة الصغيرة.
دمرت برلين بالكامل في نهاية الرايخ الثالث لكن الفرد الألماني رغم ما قاساه من ويلات الحرب والديكتاتورية، استطاع أن ينهض من جديد في صناعته ونظامه الداخلي.
إن الأزمة الفعلية في عالمنا العربي لا تكمن فقط في قمة الهرم السياسي بل في حالة الثقافة الاجتماعية التي تضع قيماً تتعارض مع مفهوم التقدم والبناء. فإذا أردنا لماردنا العربي أن ينهض من نومه الذي طال أمده، لا بد أن نحافظ على بيئتنا ونحترم القوانين والأفراد ولا نضع الأحكام المسبقة عليهم بحسب ميولهم وتبعيتهم المناطقية، ونوسع المشاريع الخدمية ونطور المناهج الدراسية بما يتلائم مع حاجاتنا، ونستفيد من أصحاب الخبرات ونوفر لهم الأجواء المناسبة للعمل والبحث العلمي والأكاديمي، ونتعلم من تجارب البلدان التي قطعت أشواطاً كبيرة في التقدم والعمران. فلا شيء مستحيل أمام الإرادة المخلصة الرافضة للإنجرار خلف شعارات الفتن المذهبية والمؤمنة بمارد حقيقي يتجسد في أفعالها العلمية والإبداعية.