غريبٌ في العراق

 

تذكرتُ امرأ القيس يوم وقف واستوقف , وبكى واستبكى , بين الدخول فحومل , تذكرتُ واد الغضا وجبل الريان ( ويا حادي العيس هل مرت بك الإبل ) .
ويا حبذا جبل الريان من جبل
وحبذا جبل الريان ما كانا
تذكرتُ الزوراء والاعظمية والكاظمية والصالحية وشارع الرشيد وشارع الكفاح وشارع أبا نواس وشارع المتنبي والفضل وقنبر علي والحيدر خانة ومنطقة الجوادر وحي الأكراد والعيواضية والصرافية والشيخ عبد القادر الجيلاني وكنيسة مريم العذراء وسلمان المحمدي والشيخ معروف الكرخي والشيخ عمر السهروردي ومحلة الشيخ فتحي ومحلة سراج الدين ومحلة أل بو شبل والفناهرة .. وعيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث ادري ولا ادري .. وتذكرتُ حافظ القاضي والمتحف العراقي والمتحف البغدادي والباب الشرقي والباب المعظم والجامعة المستنصرية وجامعة بغداد وبساتين الراشدية , وتذكرتُ الاورفلي وكهرمانة .
تذكرتُ طفولتي وصباي وفتوتي وشبابي وأترابي وأحبابي وأصحابي وأبي وأمي وإخواني وأخواتي . وتذكرتُ مدرستي الابتدائية والثانوية .( تذكرتُ ليلى والسنين الخواليا ) تذكرتُ قول السياب :
الشمس أجمل في بلادي والظلام
حتى الظلام هناك فهو يحتضن العراق
واحسرتاه متى أعود إلى العراق .. تذكرت مقهى الزهاوي ومقهى الشابندر ومقهى بغداد ومقهى حسن العجمي ومقهى عارف أقا, وتذكرتُ شربت حجي زباله . تذكرت سينما زبيدة وسينما بابل وسينما النصر وسينما غازي وسينما شهرزاد وسينما ميامي , وتذكرت سوق الشورجة وسوق الصفافير وسوق الهرج وسوق حمادة وسوق الثلاثاء وسوق السراي وسوق الأستربادي . تذكرت دجلة والفرات والغراف والوند ونهر العظيم والزاب الأعلى والزاب الأسفل وشط العرب وتذكرت مصيف صلاح الدين ومصيف شقلاوة .تذكرت مطعم الشباب ومطعم الجمهوري ومطعم ابن سمينة ومطعم الشمس وباجة الحاتي , وتذكرت همبركر أبو يونان وكبة الكبة وكبة أبو فتاح وكبة السراي , وتذكرتُ فالح أبو العنبة وفلافله المتفردة .
تذكرتُ العتبات المقدسة . تذكرت العراق بسهوله وجباله وهضابه وتلاله ومياهه وشطانه وشماله وجنوبه ووسطه وغربه وشرقه وحره وبرده وعقاله وكوفيته وسرواله ويشماغه وسدارته ودشداشته وعباءته وخزامته وحجوله وقلائده ونفائسه وذخائره ( وافيش يا ديرة هلي ) التي لم انسها يوما . وحزمت حقائبي للعودة إليها بعد التغيير , بعد الطوفان , بعد السقوط , كنت فرحا مسرورا مستبشرا مبتهجا باني عائد إلى العراق , إلى المحبة , إلى الحنان , إلى بغداد عروس الدنيا .. إلى المدينة العاشقة المعشوقة المستحمة في مياه دجلة المنسابة .. إلى شهقة المحبين و حلم الحالمين .. إلى وسادة المتعبين .. إلى حاضرة العالم كله .
بغداد يا أنشودة على فم الزمن , يا ملحمة ألف ليلة وليلة , افتحي ذراعيك للقادم إليك, و ليت أن الأرض كالأفق العريض بلا بحار وتمنيت المسافات تطوى لي ويدنو بعيدها .
وصلت الزوراء , وصلت دار السلام , وصلت قبة الإسلام , دخلت بغداد التي يا طالما تغنيت بها , وأنشدت لها , وكتبت عنها .
دخلت بغداد فوجدت : مصارف تسرق , وأرواح بريئة تزهق , ومحبة تفتقد , وأموال تنهب , وارى أسنمة توضع وخفافا ترفع , ووجدت الكلمة تستجدي , والثرثرة والغو واللغط تعلو, وكم فاسد في الثريا وطيب يبحث عما يسد به الرمق , وكم كسيف علا وكم شريف سفل , وكم شريفة نزل بها الزمان وكم عاهرة علا بها الزمن .
ويد تكبّل وهـي مما يُفتدى ويدٌ تقبّل وهي مما يُقطـع
ومشت تصنفنا يد مسمومة متسنن هذا وذا متشيع
تغير كل شي في بغداد حتى الماء أصبح له لون وطعم ورائحة ووجوه الناس كالحة .
مصائب الدهر كفي
إن لم تكفي فعفي
خرجت اطلب رزقي
وجدت رزقي توفي
كم جاهل في الثريا
وعالم متخفي
عدت إلى بغداد فلم أرى بغداد ولم أجد الوطن ولم أجد المواطن وها أنا أطوف واقرأ مع الشاعر ابن الأعتري
من ذا أصابك يا بغداد بالعين
الم تكوني قديما قرة العين
وها أنا امشي في شارع أبي نواس واقرأ معه
يا دار ما فعلت بك الأيام
ضامتك والأيام ليس تضام
رديت وعيوني تخط كبل القلم ( جا وين أودي الحجي وتعاتب ويامن )