في واحد من وجوهه يبدو كثير من النتاج الإبداعي العراقي صلباً وقاسياً، نتاج هو، في واحدة من قراءاته، صدى لتصلب حياتنا وقسوتها.. ليست حياتنا العامة وحدها التي انطبعت بهذه القسوة، فحياتنا الثقافية التي كان ينبغي لها أن تكون على مسافة من قسوة الحال العام هي الأخرى تبرز وبوضوح صارخ مظاهر فظيعة للقسوة والتوتر التي لم تنجح قيم العمل الثقافي المفترضة في تليينها وترقيقها. في مطالع القرن العشرين، كانت معارك الزهاوي والرصافي مظهراً لهذه القسوة التي تبرز كأسلوب لتصريف الخلاف الثقافي، ولكن خلافات الرصافي والزهاوي لم تكن بمجملها لتنحصر في إطار الثقافة، بل أن ما جرى تصويره على أنه خلاف ثقافي بين الشاعرين كان يخفي تحت أعماقه دوافع لا ثقافية كثيرة ليستمر الرجلان سنواتٍ موضوعاً للمتابعة الصحفية والتداولات الاجتماعية التي تتحرى الفضيحة أكثر من اهتمامها بالحقائق. نحن لم نتدرّب على أن نحيا أفكارَنا وثقافاتنا.. لم نعتد على أن نفصل بين ما هو شخصي وما هو ثقافي.. لم نتبيّن أننا يمكن أن تختلف أفكارنا وتتصارع من دون أن يفضي هذا الخلاف إلى مطاحنة شخصية. دائماً نعتقد أن الأفكار هي نحن وليست وسائلَ عقلية قابلة للاستخدام والتجريب، ومن ثم اعتمادها ما دامت ناجحة أو ركنها جانباً كلما تيقنا من انتهاء صلاحيتها.. نحن سخّرنا أنفسنا خدماً للأفكار بينما الأفكار هي في خدمة البشر. هذا حب للأفكار بوجهين متعارضين، سادي ومازوشي،.. حب صلب لأفكارنا التي نجعل منها ملكية شخصية مرّة، كما نطيح بموجبها مرةأخرى بشخصياتنا وحرياتها لصالح أن تمتلكنا الأفكار وتستعبدنا.. إنه تعبير عما يمكن أن تفعله الأنانية بتدميرها للذوات. بعد سنوات من خلاف الزهاوي / الرصافي عادت الحياة الثقافية لتنشغل، ولو بدرجة أخف، بخلاف البياتي / السياب، لكن النتائج، نتائج هذا الخلاف (الحداثي)، كانت أكثر قسوة من نتائج ذلك الخلاف (التقليدي)، لم يتوفر الشاعران الحديثان على غطاء فكري لخلاف غلب فيه الطابع النفسي والمصلحي، بفعل محدودية وعي الحداثة حينها، فاستحال إلى دسائس مباشرة، حيث أطاح السلوك الثعلبي المديني للبياتي بالبراءة الريفية للسياب ورمى به إلى مصير ما كان للسياب أن ينتهي إليه لولا هذا الغياب، غياب فرص الفصل بين الأفكار ووقائعنا. ولعل الثقافة العربية، والشعر في القلب منها، هو تاريخ لتصارع الأنانيات والمصالح، إلا بحدود ضيقة تختلف عندها الأفكار وليس الأشخاص وتتصارع، ولكن حتى في هذا الاستثناء تعود قوة الأشخاص، من حيث نفوذهم وصلاتهم ومدى قدرتهم على البطش من دون رادع أخلاقي، لتحسم الصراعات والخلافات. لا الزمن سمح بانحسار هذه المظاهر ولا سمح به تقدم الحياة وأفكار الناس.. فما زلنا مع مطالع القرن الحادي والعشرين، وحتى حين يجري الخلاف في أرفع قضايا الفكر والتفكير لا نعدم أن نجد من يلجأ في حسم الاختلافات إلى أكثر مظاهر البداوة والقبلية عنفاً، الدفع إلى القتل الرمزي وتعدّي ذلك إلى التحريض من أجل القتل الفعلي، موت الخصم وحده ما يريح الخصم الآخر ويعلي شأن تفكيره. تحتاج ثقافتنا إلى شيء من المحبة.. إلى تخفف البعض الذين يضعون أنفسهم في موضع الطهرالمطلق ويرمون الآخرين في مستنقع الوسخ المطلق.. لقد كانت ثقافتنا دائماًعرضة لاستعراض النزاهة وتخوين الاخر، وهي انشغالات تقفز على العمل الحقيقي المطلوب في الثقافة، وتنهمك بالتنابز الذي نملك منه أطنانا ًمن كلام انتهى مصيركثيره إلى مكب نفايات الثقافة، وسينتهي المتبقي منه وما قد سيأتي إلى المصير نفسه. |