هذا أبو نواس إن كنتَ قارئه 2 !! كريم مرزه الاسدي |
2 - أبو نؤاس بين الله والناس ...!! عودته إلى البصرة ، ومنها إلى بفداد حتى نكبة البرامكة (187 هـ / 803 م)
7 - عودة العبقري إلى بصرته : من بعد رحلته الكوفية يعود الفتى المتطلع إلى شرخ الشباب ، أبو نؤاس إلى بصرته ، وقد اكتسب من التجارب ما تغنيه لتحديد ملامح حياته الشعرية والاجتماعية والسلوكية ، فأصبح مشغولاً بهموم مضادة لتطلعات الأعراب ، ومسار عيشهم الضنك ، ليس من باب الشعوبية - على أغلب طني - ، وإنما هو صاحب مزاج يتطابق مع شلّة الخلاعة والتهتك ، وفي عصر يغري إليها ، ويزهو بها ، فتهافت على اقتناص اللذائذ الجنسية والجسدية قبل فواتها ! فتطلع إلى الجواري ، يراسلهن ، ويتوسل إليهن ، ناصبا الشراك لجذبهن : ثم تعلق قلبه الولهان بجارية أديبة لعلية قوم بصرته وأكابرهم تدعى(جنان) ، أجهد نفسه للنيل منها ، والوصول إليها ، وناجى ربّه بصدق الشاب العاشق الولهان ، ولا يمكن أن يأتي الشعر الآتي تصنعاً وتكلفاً ، وعليك أن تتفهم نفسية الشاعر الملهم ، وما يختزن من طاقة جنسية رهيبة ، يذكر عالم النفس الشهير فرويد في كتابه ( موجز التحليل النفسي) ، أن الفنانين ، يمتلكون طاقة جنسية هائلة ، يمكن أن يتحول فائض هذه الطاقة إلى عمل إبداعي كالشعر،الرسم ، النحت، أوالعزف ... ، اقرأ ما دار في خلده لحظات الهيجان العشقي : أَيـــــــا مُــلــيــنَ الــحَــديــدِ لِــعَــبــدِهِ داوُودِ إنه ابتهال لرب العالمين ، ومن دعاء تيسيير الأمور " اللهم يا مسهل الشديد ويا ملين الحديد ويا منجز الوعيد ..." ، ولجأ الشاعر المجدد المعاصر بدر شاكر السياب إلى مثل المناجاة أبان مرضه وغربته " يا ربّ أيوب قد أعيا به الداءُ ...يا منجيا فلك نوح مزّق السّدفا ..." " يا راعيَ النمال في الرمالْ .." ... ، ولكن النواسي أتى للدعاء والصلاة لغير ما ذهب إليه السياب ، ولو أن الأخير لم يكن أقل شراهة جنسية من شاعر بحثنا ، فهذا طبع الفنانين الذين يسرحون بالخيال الخصب ، مزودين بالطاقة الفائضة كما ذكرنا ، ولكن فيهم من يكتم ، وفيهم من ينوّه ، ومنهم من يصرح قولاً ، ومنهم من يصرح قولا وعملاً . ومن الصنف الأخير الجريء نادر في تاريخ الأمم ، ومن هؤلاء النادرين جدّاً هذا الهاني بن الحسن المؤنس المؤانس !! . ولكن أبا نواس لم يتمتع بمؤانسة (جنانه) ، ولا حتى رؤيتها إلاّ بلمحات خاطفة ، ومن هذه المصادفات الصعبة ، رآها تلطم بمأتم ، فقال فيها هذه الأبيات الرائعة : يا قمراً أيصرتُ في مأتمٍ *** يندبُ شجواً بين أترابٍ يبكي فيذري الدرّ من نرجسٍ *** ويلطم الوردَ بعنّابِ لا تبكِ ميتاً حلَّ في حفرةٍ **** وابكِ قتيلاً لكِ بالبابِ وما كان أمر هذه الجارية بيدها ، بل بيد سيدها الذي جعل دونها الأهوال والحجّاب ، وينوّه شاعرنا بذلك في الأبيات نفسها : أبرزهُ المأتم لي كارهاً *** برغم بوابٍ وحجّابِ ولمّا بلغ أبو نؤاس الثلاثين من عمره الزاهي أبان بدايات خلافة الرشيد ، وأصبح له باع طويل في الشعر والأدب واللغة ، وطارت شهرته ، وتضلع بالفقه والحديث ، وعلوم القرأن ، قال ابن المعتز في (طبقاته) : " كان أبو نواس ٍ عالماً فقيهاً عارفاً بالأحكام والفتيا، بصيراً بالاختلاف، صاحب حفظٍ ونظرٍ ومعرفةٍ بطرق الحديث، يعرف محكم القرآن ومتشابهه ، وناسخه ومنسوخه ." (12) ، ويقال أنه مال في بصرته أيام فتوته وبعد عودته لللاعتزال ، وجادل واصل بن عطاء شيخ المعتزلة جدالاً حاداً ، وأشار إليه في بيته : قل لمن يدّعي في العلم فلسفةً *** عرفث شيئاً وعابت عنك أشياءُ يقول الأستاذ خليل شيبوب: " وليس كالعبقرية لتوحي مثل هذا المعنى الرائع الذي طابقه فيه شكسبير بعد قرون حين قال في رواية هاملت : إنّ تحت السماء أموراً لا تدركها فلسفتنا ..." (13) . وهذا البيت من قصيدة خمرية شائعة صارخة يقول في بعض أبياتها : دع عنك لومي فإن اللوم إغراء *** وداوني بالتي كانت هي الداء ونعمم الكلام ، فهو يوجه كلامه للائمه من الفقهاء ، ويحاججهم بمنطق الحياة ولذائذها من خمرة وجنس وشذوذ ، ثم يغمز من قناة الأطلال وهند وأسماء ، الرجل قلب الطاولة بجرأة مجدداً - كما سنأتي - وليس من باب الشعوبية ، كما يذهب الواهمون الغافلون ، لا أعرف من له القدرة والاستطاعة على مطاولة ومقارعة قمة من قمم الشعر العربي بلاغة ولغة ونحواً وصرفاً وفلسفة ومعنى وروحاً وعبقرية ، وحملت الأمانة من يومها المارد الجبار ، قبل أكثر من ألف وثلاثمائة عام حتى يومنا الخانع المنهار ، ويبقى سؤال على الماشي ، هل هنالك من أمة متحضرة راقية تفبل أن ترمي عبقرياً بوزن أبي نؤاس علينا لنحتضنه بالأعناق ؟ !! سؤال يبقى و سيبقى دون جواب ... والسبب ببساطة ، الأمم الواعية تتعلق حتى بالسراب ...!! شكراً ، مع السلامة !! 8 - أبو نؤاس يشدّ الرحال إلى بغداد ما بين (179هـ - 187 هـ/ 796 - 804 م) : شدّ الرحال شاعرالخلاعة و الخيال ، والعلم والمجون والجمال إلى بغداد في الشطر الأول (حوالي 179 هـ ) من حكم الرشيد الحاج الغاز في عهده المجيد ، وكانت بغداد حاضرة الدنيا بسياسييها و علمائها وشعرائها وفقهائها وزهّادها ومتصوفيها وجواريها ومُجّانها وخليعيها وخمّاريها و ومثيري صخبها ، ولما كان الشاب المنطلق قدم من خلفية أمه (جُلبان) ، الأرملة العائشة بين الجواري والغلمان ، ومن ذلك الوالبة الحباب ، وحماد عجرد التعبان ، لماذا لا يرقص ويصيح في بغداد : انما العيش سماع وفدام وندام وإذا أراد الراح بالراح ، فعليه بالخلود بعيداً قريباً إلى ديري حنة و الأكيراح : دع الساتين من وردٍ وتفاحِ *** واعدل هديت إلى ذات الأكيراحِ ويردد أحياناً : يا دير حنّة من ذات الأكيراحِ **منْ يصحِ عنك فأني لستُ بالصاح حاول الشاعر اللذيذ أن ينفذ إلى قصر خلافة الرشيد العتيد من خلال البرامكة ، وبشخصية فضلها ، فقدم قصيدة للخليفة - من غير مقابلته - يستعطفه فيها على عدم قتل هذا (الفضل) غيرةً منه بسبب كرمه الشديد الذي طاول كرم الخليفة الرشيد ، كما ينوّه الزمخشري في (كشافه) ، أو بحق الفضل بن الربيع كما يذكر العباسي في (معاهد تنصيصه) (14) ، من السريع : قولا لهارون إمام الهدى**عند احتفال المجلس الحاشدِ مقتضى حال الاستعطاف يشير إلى أن عجز البيت الأخير يعني الخليفة ، لا الفضل كما يبدو ظاهراً ، فما كرم الفضل إلاّ من فضل الرشيد. أربع البلى أن الخشوع لبادِ *****عليك ، وأني لـــــم أخنكِ ودادي فمعذرة مني إليك بأن ترى ***** رهينة أرواح وصــــــوت غوادي تطيّر بنو برمك عند سماع هذا المقطع الرهيب ، وما مضى أسبوع حتى نكبهم الهارون الرشيد ببأسه الشديد !! يعقب ابن رشيق القيرواني عليها قائلاً : " فتطير منها البرمكي، واشمأز حتى كلح وظهرت الوجمة عليه، ثم قال: نعيت إلينا أنفسنا يا أبا نواس، فما كانت إلا مديدة حتى أوقع بهم الرشيد وصحت الطيرة.. وزعم قوم أن أبا نواس قصد التشاؤم لهم لشيء كان في نفسه من جعفر، ولا أظن ذلك صحيحاً؛ لأن القصيدة من جيد شعره الذي لا أشك أنه يحتفل له، اللهم إلا أن يصنع ذلك حيلة منه، وستراً على ما قصد إليه بذلك . " (15) لا يتبادرلذهن القارئ الكريم أن هذا الشرخ بين العبقريين ، عبقري السياسة وعبقري الشعريقلل من منزلتيهما ...كلاّ بل يعززهما لاختلاف نهجيهما وحريتهما , ولو أن الأول حدد من حرية الثاني بحبسه مرارا،والعفو عنه بشفاعة البرامكة، وهو أمر يخضع للسنن الشرعية ، والأعراف الاجتماعية ، وقوانين الحياة الوضعية ، ولكن لم يسجّل لنا ديوانه قصائد مدح بحق الرشيد حتى النكبة البرمكية، وإليك فلسفة شاعرنا وأنت على البعد ، والمعنى على قرب : سقى الله أياماً ولا هجر بيننا**** وعودُ الصبا يهتز فــي ورق خضر وسقياً لأيام مضت وهي غضةٌ ** ألا ليتها عادت ودامتْ إلى الحشـــرِ وهان عليَّ الناسَ فيما أريدهُ*****بما جئتُ فاستغنيتُ عن طلب العذرِ بقى الرجل في بغداد متبغدداً بين الجواري والخمارات والغلمان وشعراء التهتك والخلاعة والمجون ، يقنص اللذات اقتناصاً حتى لا تفوته فائتة ، بل يطاردها سيان أكانت في أعالي السماء ، أم تحت تخوم الأرض : هل عندك اليوم من خمر فنشربها ***أم هل سبيل الى تقبيل عينيكِ علاما يلومه اللائمون ، وسلوكه طبع لا تطبع ، ويمتلك من الجرأة الرهيبة ، والصراحة التامة أن يشهر بما تختلج فيه نفسه من أحاسيس و سرائر ، لا يشغل باله هؤلاء المتطفلون القاصرون ، والدنيا مشغولة به ، إلى جهنم وبئس المصير ، ولا أدري لمن هذا الأخير !! وكان محظوظاً من يحظي بإلتفاتة منه، والأكثر حظاً من ينتزع منه ابتسامة شخصية لصالحه سوى المخصوصين والمخصوصات من ذوي أو ذوات الشان والبان ،والقد والقدر : لاتبك ليلي ولاتطرب الي هند **واشرب علي الورد من حمراء كالوردِ تسقيك من يدها خمرا ومن فمها **** خمرا فمالك مـــن سكرين من بد أمّا من حيث علاقته بخلانه وأخوانه من الشعراء والأدباء ، فنستعين بما رواه الرقيق القيرواني في (سروره وأوصاف خموره ) قائلاً : " قال أبو جعفر الحنفي: دعاني يوماً بعض إخواني فوجدت عنده العباس بن الأحنف وأبا نواس فما زالا لا يتذكران ويتناشدان إلى ان قام العباس، فقلت لأبي نواس : كيف رأيك في العباس؟ قال: هو أرق من الوهم وأحسُّ من الفهم، ثم عاد وقام أبو نواس فسألت العباس عن رأيه فيه، فقال: أبو نواس أقر للعيون من إنجاز وعدٍ بعد يأسٍ، فلما أخذ الشراب منا مأخذه قال أبو نواس : هذه ملامح من حياته في بغداد حتى نكبة البرامكة ، أي أصبح عمره ما يقارب ثمان وأربعين سنة هجرية ، وبعدها مباشرة هرب إلى دمشق ، ومنها إلى مصر خوفاً من الرشيد ، إذ كانت علاقة الشاعر مع البراكمة حميمة لعطاياهم وهباتهم له ، وموقفهم منه خلال أزماته عند حبسه من قبل الرشيد لتهتكه ومجونه ، فإلى الحلقة القادمة ، وإنَّ غداً لناظره قريب !!
|