إلى أين تقودنا وسائل الإعلام ؟

 

بين وقت وآخر تأخذ وسائل الإعلام العالمية على عاتقها، وكذا العربية على خطاها، الاهتمام بموضوع معين يتصدر عناوين النشرات الإخبارية ويحتل الصفحات الاُوَل في الجرائد فيغدو بين ليلة وضحاها حديث الناس ومركز اهتمامهم الرئيس ومحور حواراتهم في المجالس الأدبية والاجتماعية فضلا عن جلسات النميمة، ولا تكاد تمر فترة من الزمن حتى ينتقل الموضوع إلى الصفحات الداخلية أو يصبح خبرا على هامش نشرات الاخبار ثم يصل مرحلة الالغاء ويمحى كليا من الخارطة الإخبارية و ربما لا يجد له موطئ قدم في ذاكرة الناس وكأنه لم يكن.
وهكذا تضعك وسائل الإعلام داخل دائرة مغلقة وتصدّر لك اهتمامات لتضعها أنت دون أن تدري في مقدمة أوليات اهتماماتك فتنشغل بها وتتفاعل معها كأنها خبزك اليومي، فعلى سبيل المثال لا الحصر، عندما تناولت وسائل الإعلام موضوع انتشار مرض السارس القاتل، أقامت الدنيا ولم تقعدها وخاف الناس أن يتحول هذا المرض الى وباء مستشرٍِ وشر وبيل، وهكذا الحال من بعده مع امراض اخرى كانفلونزا الطيور والخنازير والحمى القلاعية ولا ننسى جنون البقر وآثار كل منها على الجنس البشري، فوجه الجميع أنظارهم و ركزوا اهتمامهم على هذا الموضوع مبتعدين عن شراء اللحوم البقرية خوف جنونها، والضأن لقلاعيتها والطيور بأنواعها مخافة الأنفلونزا...وهكذا كلٌ في أوانه مع حالة من الرُهاب خوف أن تقضي هذه الأمراض عند استشرائها على نصف سكان الكرة الأرضية كما حصل حينما أدى الطاعون دورا بارزا في تخفيف الزحام على كوكبنا، من جانب آخر، قد تشهر بعض شركات المنتوجات الغذائية إفلاسها أو تغلق مصانع أبوابها في بلدان بعينها، وكأن الإعلام الحر كان موجها لايذاء اقتصاد دول بعينها والله اعلم، بينما في الوقت عينه تروج صناعة ادوية ولقاحات ومضادات فتنتعش اعمال شركات صناعة الادوية ولربما في بلدان بعينها ايضا فليس كل العالم بنفس المستوى من التقدم الطبي.
وحصل عندنا مثل ذلك ايضا ان توجه اهتمام الإعلام بشكل مكثف في زمن ما نحو انتشار مرض الكوليرا في العراق، وراح المتتبعون يحصون الحالات يوميا وعدد الوفيات والمناطق الموبوءة ثم خف هذا الاهتمام تدريجيا، وتوجه نحو التلاشي وكأن المرض قد اختفى بين ليلة وضحاها، نسي الناس كل الاحتياطات التي كانوا يتخذونها في حينه وابتعادهم عن تناول المرطبات كما تركوا اللحوم في زمن سابق، ليعودوا إلى الحالة الاعتيادية وكأن المرض قد زال.
عندما تحصل مشكلة في أبعد دولة في ابعد بقعة في العالم يلعب الاعلام دورا مهما في وضعنا في قلب الحدث كما يقولون، لنأسف أن حافلة انقلبت في طاجيكستان، ونحزن على ضحايا تصادم قطارين في الهند أو مصر، ونقلق من انهيار ثلجي حصل في القطب الشمالي، أو نشفق على نوع ما من الحيوانات التي باتت نادرة الوجود من خطر الانقراض.
ولاننسى ظاهرة الاحتباس الحراري التي وضعها العالم في رأس قمة سلم الاولويات وسلط الاعلام جل اهتمامه عليها (وهي جديرة بأكثر من ذلك) واطلع الناس على المبادئ العلمية والاسباب التي ادت الى هذه الظاهرة وما يحصل من ثقوب في الأوزون، وما نتج عن دخان المصانع والسيارات وبالتالي ارتفاع درجة حرارة الأرض، من ذوبان لثلوج القطب الشمالي واحتمال غرق مدن باكملها جراء ارتفاع مناسيب مياه البحار والمحيطات، وخاف الناس أن يكون طوفان نوح الثاني قادما في الطريق فيساهم هو الآخر في تخفيف الزحام، وماذا حصل بعد ذلك؟ زال اهتمام الإعلام بهذا الموضوع، أو تناقص على الأقل، وهكذا على سجيته اهتمام الناس تناقص، لان أحداثا جديدة تولد دائما، بعضها بشكل طبيعي وآخر بولادة قيصرية وربما تكون قسرية، لشغل الأذهان وتغييب العقول وإلهاء الناس عن أمور جسيمة وخطيرة بأخرى قد تكون على ذات المستوى من الخطورة لكنها لا تعنيهم فتكون كالقنبلة الموقوتة معدة ليفجرها الإعلام النزيه في الوقت المحدد لصرف الانتباه وتحويل الأنظار عما يدبر في الخفاء. وعلى سبيل المثال لا الحصر ما عادت أخبار الصراع العربي- الإسرائيلي تحوز ربع ما لأخبار محمد عساف من متابعة، ولا مشاكل التقاتل الطائفي في لبنان تنال عـُشر الاهتمام بأخبار زياد خوري، وكذا الحرب الدموية والمأساة الإنسانية المتواصلة في سوريا منذ أكثر من عامين لا تنال واحدا بالمئة مما تناله أخبار فرح يوسف من مساحات وسائل الإعلام، وجميع المذكورين من المتبارين في برنامج أراب ايدل الذي قال عنه الكاتب الإسرائيلي (نير ياهاف) انه كان أهم حدث تليفزيوني هذا العام في منطقة الشرق الأوسط، فيما أشارت صحيفة (يديعوت أحرونوت) الإسرائيلية إن الفلسطينيين وجدوا بطلا في محمد عساف، وأصبح لديهم أخيرا سبب للابتهاج. وأكدت على أن عساف نجح فيما فشل فيه كل قادة فلسطين والزعماء العرب، وهو توحيد كل الفصائل الفلسطينية تحت لافتة واحدة يحبها الجميع ويتمنون له التوفيق والفوز! فيما ذكر موقع العربية أن فوز عساف صرف نظر الفلسطينيين عن استقالة رامي الحمدلله رئيس الوزراء الفلسطيني المكلف بعد ثلاثة أسابيع فقط من تكليفه. ولعل الإعلامي المصري عمرو أديب كان مصيبا حينما قال:( الحمد لله أن أراب قد انتهى لنلتفت إلى مصائبنا).
وعلى هذه الشاكلة نرى ان احداثا جساما وقعت في الماضي وما زالت تقع في العراق وسالت انهار من الدماء غسلت شوارع بغداد ومدن العراق الأخرى، حتى كاد دجلة والفرات يصطبغان باللون الأحمر كما اصطبغ دجلة بالأزرق يوم اغتال هولاكو حضارة وثقافة بغداد في غابر الأزمان، لكن الاهتمام الإعلامي بمثل هذه المواضيع كان متباينا بين محطة و أخرى، حسب التبعية ربما، فقد لا يحوز مئات يقضون في انفجار إرهابي في العراق ما يناله ثلاثة يقتلهم مختل عقليا في الولايات المتحدة، من الاهتمام والمتابعة والأضواء الكاشفة.
وهكذا يصدر الاعلام (اهتمامات) لنا وللعالم اجمع لنجعلها اهتماماتنا حتى وإن كانت تحدث في الأصقاع البعيدة ولو كانت لا تعنينا أو تمسنا، لكن تسليط الإعلام للاضواء الكاشفة عليها، يجعلنا وإن كنا في دوامة من العنف والفقر والبطالة ونحن أنفسنا مهددين بالانقراض، نخشى على حيوان (الكوالا) المسكين من ذات المصير.