العراقيون والمصريون |
كلما انتفضت مصر، انتعشت المقارنات بينها وبين العراق. انطلاقا من أن البلدين أشبه أن يكونا فرسي رهان ميدانهما التاريخ البعيد والقريب. منهما تعلّمت البشرية أبجدياتها وأديانها وفنونها ومن أنهارهما الثلاثة انبثقت أولى الحضارات. نعم، في كل مناسبة كهذه، تصدحُ الأصوات مقارنة بين ثوريتهم وخنوعنا، بين مدنيتهم وريفيتنا، فهذا يقول أن العراقيين (جبناء)، وذاك يزعم أن الدين خدّرنا وجعلنا أشبه بالسكارى. وبين هذين الرأيين، يحلو للبعض أن يعيد التذكير بتلك الأقاويل الفولكلورية التي راجت عنا وعنهم من قبيل أنَّ تراثنا الثوري أزخر، وتمرداتنا على السلطات أكثر، في حين أنهم عرفوا بـ (الخنوع) لدرجة أنَّ الجواهري وصفهم، في ساعة غضب، بقوله : ما انفكَّ يا مصر والإذلال تعويدُ.. يسومك الخسف كافورٌ وإخشيدُ! أنا شخصيا لم أتوقف، كلما قام المصريون منتفضين خلال السنتين الماضيتين، عن المقارنة قائلا أنَّ هناك فروقا جوهرية بيننا، اجتماعية وثقافية. منها، مثلا، أنهم يلتفون حول علم واحد بينما نحن ندور حول رايات متنوعة، طائفية وقومية. ومعنى هذا أنَّ فكرة الوطنية التي يبدو أن الثورات الحديثة تقوم عليها غائبة عندنا. هذا الغياب عائد ربما لطبيعة السلطات التي حكمتنا في القرن العشرين إذ كان أغلبها طائفي ، ولذا التففنا حول هوياتنا الفرعية كنوع من ردّة الفعل. النتيجة أن بلدنا صار مثالا للانقسامٌ المجتمعي الحاد والغياب شبه تام للرموز الوطنية العابرة للطائفية والعرقية والقومية لدرجة أننا ، خلال قرن كامل ، فشلنا في أنتاج رمز وطني واحد نلتف حوله . لكن قبل كلِّ هذه الفروق، ثمة زاوية نظر أود الالتفات لها الآن، وهي تأثير ما مرَّ بالعراقيين منذ عام 1980 حيث شمّر عزرائيل عن ذراعيه وشرع في أطول حقبة حصاد يمر بها في تاريخه. أي والله، لقد رأينا الويل منذ تلك الأيام ولحد كتابة هذه المقالة حيث الناس الطيبون صاروا يشكّون بالسيارات المارّة قربهم، وينظرون بريبة من لدغته الأفعى لمن يرتدي معطفا و(معبعب) خوفا من أن يكون محزما بناسفة. أتساءل: ماذا لو أن المصريين جرّبوا ما جرّبناه؟ ماذا لو أنهم داخوا بالحروب والحصارات والقمع الذي لا مثيل له؟ ماذا لو أنهم اعتقلوا على الشبهة وذابوا في أحواض التيزاب كما جرى لنا؟ ماذا لو أن نخبتهم هربت تبحث عن الأمان ومثقفوهم اقتعدوا الأرصفة وباعوا (السميط) في الملاعب؟ تخيلوا فقط لو أن ممثليهم وشعراءهم ومخرجيهم هربوا من مصر وداحوا في بلدان اللجوء مثل جماعتنا المساكين؟ تخيّلوا لو أن بلادهم احتُلّتْ وسَلّطَ الأعرابُ عليهم مفخخيهم وكواتمهم ، وأسسوا مليشيات تتبع هذا الطرف أو ذاك؟ تخيلوا ـ مثلا ـ شوارع القاهرة وهي تشهد انفجار عشرين مفخخة في نهار واحد، أو تصوروا الصعايدة وهم يقطعون الطريق على المسافرين ويذبحونهم كل يوم؟ تخيّلوا لو أنّ وزراءهم يقودون المليشيات وبعض نوابهم مطلوبون من البوليس الدولي! لا بل تخيلوا لو أنهم قد دخلوا مثلنا في نفق الحرب الطائفية واقتتلوا اقتتال (الأبطال) فيما بينهم حتى مُلئت المقابر بشبّانهم وشحّ الدفانون من فرط تكالب الموت عليهم؟ تخيّلوا لو أنَّ زعماءهم يقودونهم من أوربا وإعلامييهم يتاجرون بدمائهم عيني عينك! أتساءل: ماذا لو أن كل هذا حدث لهم مثلنا، هل كانوا سيثورون كما نرى ويتحركون بالطريقة الرشيقة التي نلاحظ؟ ربما سيقول البعض أنَّ هذا ليس سوى تبرير، وأنا أقول نعم، هو كذلك. إذ كيف تتوقع من شعبٍ خاوي الوعي، خائف في كلّ لحظة من عدوٍ لا يراه، أن يتعامل مع حياته مثل الشعوب الأخرى؟ كيف تتوقع من أب عراقي مسكين، يخرج لعمله وهو لا يدري أن كان سيعود على رجليه، أن يفكر بطريقة سويّة، ويستمع لمن يقول له ـ أنهض للمطالبة بحقوقك! من المؤكد أنه سيقول وهو لا يكاد يلتفت عن همه وغمه ـ يمعود يا حقوق.. يا ديمقراطية.. خلينه نسلم على أرواحنه بالأول! ألا يستحقُّ هذا الفرق انتباها يا ترى أم تراني انحزت لأبناء جلدتي كالعادة؟ |