جوّع كلبــك .. |
بخمس عشرة دقيقة أنهى مجلس الأمن الدولي ثلاثة وعشرين عاماً من أسوأ عقاب جماعي رزح تحته شعب بأكمله بقرار من الأمم المتحدة. صدور القرار الأممي بإخراج العراق من طائلة الفصل السابع قوبل بفتور شعبي عراقي.. لقد جرى دفع الثمن باهظاً، ثمن حماقات الدكتاتورية وما قابلها من استهتار دولي بمصير شعب وتحطيم بناه الأساسية وتخريب حياته وأنظمة عيشه وتعليمه وصحته وخسارته للزمن وللجهود وقبل كل هذا لمئات الآلاف من أرواح أزهقت، مرّات بحروب وعنف واعدامات، وأخرى بتجويع وأمراض وبتلوث في البيئة وفي الأخلاق والضمائر والنفوس. كان الثمن باهظاً، وكان الضمير الإنساني كسولاً في يقظته على مأزق الموت الذي زج فيه العراقيين.. لنتذكر أن قرار الحصار فرض بالقوة وفوراً على العراق، بينما احتاج تطبيق مذكرة التفاهم المسماة (الغذاء والدواء مقابل النفط) إلى أكثر من عام جرى فيه انتظار مسترخٍ دولياً ومتوتر من جانب الشعب العراقي حتى جرت موافقة نظام صدام حسين عام 1996 على القبول والعمل بنظام المذكرة. لم يكن العراقيون معنيين بشكل مباشر بجوانب بدت تخص السلطة أكثر مما تخصهم، من مثل منع توريد الكثير من المواد والأجهزة التي حسبت على أنها يمكن أن تدخل في مجال التصنيع العسكري، كان الجوع قد امتهن الكرامة الإنسانية وهدد الحياة واسودَّت معه أشباح حاضر ومستقبل أسودين فاستحالت إلى كوابيس. كانت اجراءات المجتمع الدولي فظة في محاربة مجتمع بغذائه، ولم تجر الفطنة والتنبّه إلى أنه حتى أنظمة الحبس في أقسى حالاتها كانت تؤمن الغذاء للسجناء بما يديم الحياة، ناهيك عن أن هذا المجتع الدولي المحكوم بإرادة (الكبار) الدوليين هو مجتمع سعى وعمل من أجل نظام حياة في دولهم لا يكون معه الغذاء مشكلة بفعل ما تضمنه أنظمة الرعاية الاجتماعية المعمول بها من تكفل بهذا الجانب الأساس الذي يشكل أي خلل فيه عاراً على الإنسانية بعد تاريخها التمدني الطويل. لكن الغذاء بقي يشكل كارثة بالنسبة للعراقيين منذ لحظة اطلاق العقوبات.. فقسوة التطبيق الدولي للقرار الجائر رافقتها قسوة أكثر بشاعة من النظام الحاكم الذي كان بامكانه اللف والدوران على العقوبة الدولية وتأمين نظام غذائي مناسب. لقد عمل النظام على استثمار معاناة العراقيين، وبما تطلب منه تفاقم تلك المعاناة وتنميتها، من أجل أهداف سياسية مزدوجة خارجية وداخلية؛ مرّة (لاحراج) المجتمع الدولي وإثاره شفقته وبما قد يسهم في امكانية إلغاء الحصار، ومرة بالعمل تحت ستار العقوبات الدولية من أجل تجويع الناس واذلالها وتركيعها من أجل الخبز اعتماداً على شعار (جوّع كلبك يتبعك). في الحقيقة كان هذا الشعار مبدأ الطرفين في انهاك العراق والعراقيين.. فالمجتمع الدولي هو أيضاً، من حيث يدري قاصداً أو لا يدري غافلاً، كان يريد بقراره المتعسف تجويع الشعب العراقي ليتبع (عدل الإرادة الدولية). لقد كنّا، كعراقيين، مختبراً إجرامياً.. كنا فئران تجربة لا أحسب أنها ستتكرر في مكان آخر، ليس لأن جميع الدول اتعظت من مصيبتنا مع صدام ومع ظلم العالم وإنما بفعل الصحوة الصامتة من قبل المجتمع الدولي على الطابع الكارثي المخزي الي عوقب بموجبه مجتمع كامل بأسلوب لم تعرفه البشرية من قبل في أكثر مراحلها انحطاطا وتخلفا وهمجية. لم نفكر بالنهب المنظم الذي تعرضت له أموالنا مع تطبيق مذكرة التفاهم. لقد قلت في كتاب مخطوط لي إن تسمية هذا المذكرة بهذا التوصيف (الغذاء والدواء مقابل النفط) هي تسمية مفضوحة لا تقل سخفاً عن مقترحيها ومصدريها والموقعين عليها. كان واحد من أسباب تشريع المذكرة هو حاجة الآخرين، وليست حاجتنا، إلى تصدير النفط والتصرف بعائداته في التعويضات التي فرضت على نظام لم يتورع من أجل ضمان حياته بالقبول بكل شيء. ماكان ممكناً التفكير بأموال اعتدنا دائماً أن لا نرى منها إلا مزيداً من القهر والدحر وتنمية بطش السلطة وتضخم شهواتها في الحروب الخارجية والقمع الداخلي.. ما كان ممكناً التفكير بأموال تهدر بينما البطون تنام على الطوى. في تلك السنوات السود، وتحت وطأة الجوع، ليست الأموال العامة وحدها ما نسيناه، لقد نسينا حتى أدنى حقوق الإنسان الشخصية في السفر والسكن والعلاج والزواج والتعلم وتأمين خدمات الماء والكهرباء والإتصال.. لقد رمي بالبلد والشعب إلى الخارج من الحياة الانسانية في أدنى اشتراطاتها.. ولن يكون العودة المتأخرة بموافقة دولية إلى هذه الاشتراطات والحياة امتيازاً إلا بمقدار ما يكون انهاء حكم على إنسان بريء بقي ينتظر لحظة اعدامه ثلاثة وعشرين عاماً في الحبس المشدد امتيازاً له وليس فرصة لمحاكمة سجانيه. |