من أين أتوا ؟..دراسة في زيف أصالة أصحاب السلطة

 

مقدمة:

هذه أول دراسة أعرضها بعد عودتي من الباكستان، وقد يبدو العنوان مجرد تساؤل تاريخي آخر مما يجري على ألسنتنا نحن المؤرخين، وربما أوحى بالحديث عن الاصل التاريخي للإنسان ذلك الكائن الذي سخر الله له الوجود فعبث به وتخلى عن إنسانيته، وبدلا من ان يصير عنصراً فاعلاً في حركة التاريخ بإعتباره اكثر المخلوقات عقلاً، نراه قد تخلى عن اهم عناصر إنسانيته فأراد أن يصير آلهة تعبد.

فالمشكة لا تكمن في أصالته وقدرته على التفاعل مع حركة التاريخ، ولكنها صارت تكمن في تلك النزعة اللامتناهية في الخلود، ولعل هذه النزعة تظهر في ما جسدته تلك الرؤية في ملحمة (كلكامش) في سعية نحو البحث عن أصل عناصر البقاء والاستمرار اللامتناهي في الحياة.

غير ان الخلود نفسه مرتبط بالهيمنة المطلقة والكلية على الموجودات وبالتالي هو يؤكد على إنماء نزعة التحول من الجنس البشري إلى الآلهة وهي ذات النزعة التي تشكلت على خلفيتها رؤية فلسفة ارض وادي الرافدين وإنتقلت إلى الفلسفة اليونانية القديمة ثم ظهرت بعد ذلك ايضاً في الفلسفة الرومانية.

في هذه الدراسة الموجزة استعرض بعضاً من طروحاتي في فلسفة التاريخ تناقش نزعة الحكام في السلطة ووصول شخصيات للحكم لا علاقة لها بحركات التحرر كما لا تملك تاريخاً أصيلاً ولكن ظروف حرجة اوصلتها للسلطة، فتخلت عن إنسانيتها وصارت تدعي البقاء والخلود بأي شكل من الاشكال في عملية من التبرير لسلبياتها المتراكمة.

من هم؟

 

سؤال آخر يبدو كمقدمة تاريخية في خضم الصراع التاريخي على العروش وكراسي الحكم، غير ان الاكثر إدهاشاً هو ملاحظة تلك الحفنات من العفن التي تدعى ملوكا وحكاما على مسار حركة التاريخ، فاكثر من 96% من هؤلاء لا يملكون تاريخياً أصيلاً في حركة الكفاح ضد الظلم كما لا يملكون أصولاً عائلية مشرفة، يقول الله تعالى:

" وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ". (1)

كان طالوت من بني إسرائيل غير انه ليس من بيوتات الملك، ولم يكن ذا شأن ظاهر، إلا ان الاختيار هنا كان إختياراً الهياً محضاً وبالتالي تسقط كل الاختيارات الاخرى.

من هنا لا يمكن مقارنة اي ملك من الملوك المعاصرين بطالوت، فهؤلاء ليسوا كطالوت ممثلين للارادة الالهية على الارض، بل هم فرضوا ملكهم بالقوة والمال.ملوك العرب والمسلمين شخصيات هامشية لم تلعب دوراً في تحرير الامة من القهر والظلم بل شاركت في صناعة الفساد السياسي والاجتماعي والديني، وأما المشاريع السياحية لبعض الدول فانما جاءت بقرارات من الخارج لتصير تلك الدول منتجعات سياحية وكي لا تتطلع شعوبها نحو التحرر الحقيقي من نير الظلم الغربي. فمن هم هؤلاء الذين صاروا ملوكاً وأمراء وحكاماً ومن أوصلهم للسلطة والحكم؟

لا شك المخابرات البريطانية ليست هي الله تعالى شأنه بكل تأكيد، لكنها حاولت ان تقوم بمهمة الخالق كما تتصورها دوائرها، وكما حلم بذلك الجالسين على مكاتبها منذ اكثر من اربعمائة عام، حتى انها حكمت السياسة في شبه القارة الهندية لما يقارب الثلاثمائة سنة.

فالمس بيل (2) وبيرسي كوكس (3). شكلوا وجه السياسة البريطانية في الشرق الاوسط وخاصة في العراق والخليج حيث كان لهم دور كبير في صناعة السياسة وانشاء الدول، وظهور ابن سعود في شبه الجزيرة العربية، على يد فيلبي (4)، جاء لترسيخ دور المخابرات البريطانية في الشرق، والتأسيس لدور اسرائيل في الهيمنة على الشرق. ولتحقيق الحلم التوراتي القديم.(5) وذلك ينطبق على جميع الملوك والحكام في دويلات الخليج والعراق والاردن وسوريا وإيران في عصر الدولة البهلوية، وشمال افريقيا وغيرها منذ نهايات القرن التاسع عشر وحتى الوقت المعاصر.

هؤلاء الذين صاروا ملوكاً وحكاماً ليسوا أنبياء، ولا عباقرة، ولا علماء، وليسوا من أصحاب الخبرات، ولا يصلح اي منهم ان يكون مصلحا، لأن لعملية الاصلاح قواعد علمية وعقلية وفكرية ونفسية بعيدة عن طروحات اصحاب العروش والكراسي. وهذا ايضا ينطبق على العراق منذ تأسيس مفهوم الدولة العراقية على يد المخابرات البريطانية بتنصيب فيصل الاول ملكاً على الرافدين بعد فشله في سوريا، كما ينطبق على كل مراحل العراق المعاصر حتى ممن جاء باسم الانتخابات، لانها في الواقع لم تكن انتخابات حقيقية بسبب تنامي النزعات في السلطة والهيمنة وبسبب ان الاصل كان بقدوم هؤلاء على الدبابات الامريكية كما جاء اسلافهم بالقطار الامريكي.

أكذوبة أصالة السلطة:

لا يمكن لكل هؤلاء الملوك والامراء والحكام الادعاء بأصالة سلطتهم على الامة، لأنهم لم يأتوا من واقع الامة، بل فرضتهم قوى خارجية (المخابرات البريطانية و الامريكية)، هؤلاء لا علاقة لهم بتاريخ الامة، ولا بآلامها أو طموحاتها، هؤلاء جائوا ليحققوا أجندات غاياتها لا تمثل مستقبل الامة ولا صيرورتها.

إن محاولات تعميم فكرة الحكومات العربية أو الحكومات الاسلامية تعبر عن فشل اصحاب السلطة والتجائهم لمسميات كبيرة وواسعة يمكن من خلالها إستجلاب نفسية الأمة وأخضاعها لمنهج هذه المسميات وإن كان أصحاب السلطة أنفسهم لا يؤمنون بها.

وهذا لا يعني ان تتشكل اصالة السلطة وفق منهج حكم البروليتاريا الذي سعت الفلسفة الماركسية لتطبيقة، لان الأصل في حكم الشعب ان يكون الشعب قادراً على تغيير السلطة متى ما وجد الانحراف في مناهجها وتطبيقاتها وخروجها على المبادي والنظم.

لا تحقق السلطة أصالتها إلا بتحقق قيم المجتمع، وصيانة حقوقة من الانتهاكات الفاضحة التي دأبت عليها السلطات الحاكمة لاجل تمرير اجنداتها الدولية والمحلية.

ديمقراطية مزيفة وحريات منتهكة:

من المهم أن تتبع الدراسات التاريخية منهجا ً معرفياً (ابستمولوجياً) في بحوثها للتخلص من المنهج القديم القائل بان التاريخ إنما هو (حدثُ و زمان و مكان)، فهذه النظرية قد حجمت الموقف التاريخي وحصرته في حيز ضيق، متجاهلة البعد الفكري للامة والطبيعة الحقيقية للمجتمع وكافة منظومات العلاقات البينية بين الانسان وخالقه وبينه وبين نفسه وبقية الافراد والبيئة والوجود، كما أن لكل أمة عناصر صيرورتها التي تتباين مع عناصر صيرورة الامم الاخرى وإن إتفقت معها في بعض جوانبها، فالامة العربية قد تشمل في منظومتها تنوع هائل من الاديان والمذاهب والاعراق، والامة الاسلامية تتشكل من أعراق وكيانات إجتماعية متعددة، فعناصر تكوين كل أمة تشكل قاعدة بيانات متخصصة، وبالتالي يحدث التباين والاختلاف كما يحدث التقارب في جوانب منها.

لا شك أن التباين التاريخي في تأسيس عناصر كل أمة يعني عدم إنطباق نفسيتها ومزاجها وشخصيتها وأيضا عناصر صيرورتها مع الامم الاخرى، وبالتالي لا يمكن تطبيق نفس مناهج التقدم عليها جميعاً بذات الشكل أو بإستعمال ذات المعايير والقواعد والسبل، فما يصلح لهذه الامة ليس بالضروري ان يصلح لغيرها، وما ينسجم مع مزاج هذه الامة وشخصيتها وموقفها التاريخي لايتفق بالضرورة مع مزاج وشخصية والمواقف التاريخية للأمم الاخرى، حتى وإن كانت هذه الأمم معاصرة لبعضها البعض، أو مجاورة لها جغرافياً، أو مشتركة معها في بعض عناصر كينونتها.

ومن هنا ما يمكن أن يصلح لهذه الامة ليس بالضرورة ان يصلح لغيرها، فالديمقراطية الغربية نشأت في ظروف المجتمع الغربي الذي أسست له نظريات فلسفة الحضارة اليونانية و والهيلينية والرومانية، والفلاسفة الاوربيين في كل العصور يدينون لهذه الفلسفات القديمة ويعتمدون عليها في آرائهم ونظرياتهم، وهذه القواعد مع تطورها تبقى بعيدة عن منظومة تفكير الفلسفة الشرقية، فحكم بريطانيا للسياسة الهندية لمدة تجاوزت الثلاثمائة عام لم تمكنها من تطبيق الرؤية الغربية في المجتمع الهندي، وبقي المجتمع الهندي يمارس طقوسه ويعيش حياته اليومية بعيدا عن مكاتب المخابرات البريطانية ولم يتفق معها مما ادى إلى قيام الثورة التي قادها المهاتما غاندي ليحقق من خلالها إستقلال الهند. ولعل من أسباب نجاح غاندي أنه جاء من صلب أمة الهند وعاش مآسيها وآلامها فكان جزءا أصيلاً من عملية الكفاح ضد الاستعمار البريطاني.

السلطة والنزعة نحو الخلود:

ناقشنا قضية الخلود في بحوثنا الخاصة بعلم الوجود من موقف تكويني، ونحن هنا نستعرض الموقف الاجتماعي في تنامي نزعة الخلود في المجتمعات، إذ لاشك أن النفس البشرية تنزع نحو البروز وبلوغ المراتب العليا خاصة عندما تتوفر لها عناصر تاريخية وإجتماعية تدفع نحو تكريس التكبر على حساب المجتمع، والحاكم بما يملك من سلطات خولها له المجتمع نفسه تتنامى لدية هذه النزعة بتنامي سلطاته، وبما تعرضه عليه حاشيته وأتباعه من تبجيل وتقديس، أو بما يحوط به من منتفعين وأذناب غاياتهم تلك المكاسب التي يجود بها عليهم ليبقوا في دائرته ينشرون مدائحة بين الافراد.

لا شك أن شخصية هزيلة كهذه، أو تقبل أن تكون هزيلة ستصبح لعبة بيد صناع القرار في الخارج ممن يمتلكون قدرة على تحريك قطع الشطرنج هذه، لتحقيق غاياتهم من خلال إيهام هذه الشخصيات بقدراتها الفائقة (وهي قدرات وهمية هم صنعوها لهم)، وبكونهم من المخلدين القادرين على الاستمرار في السلطة نتيجة للدعم الغربي لهم.

من هنا نرى ان كل الحكام العرب واكثر من 98% من حكام العالم الاسلامي المعاصر هم مجرد أدوات أو أغراض تتحرك على رقعة جغرافية محددة لتحقيق غايات سلبية تضر بمجتمعاتهم ولا تتفق مع المعايير العربية أو الاسلامية على السواء كما لا تتفق بالاساس مع المعايير الاخلاقية والنفسية للمجتمعات، باعتبار ان شخصية المجتمع تتحدد من خلال منظومة القيم وفي مقدمتها القيم الاخلاقية. إذ يمكن للمجتمع في مراحل متقدمة من الوعي أن يفرز الخبيث من الطيب، وأن يشخص الفعل السلبي وفقا للمعايير والاعراف الاجتماعية وهذا ممكن حتى في مستويات وعي متدنية نسبياً.

من جانب آخر ثمة علاقة ترابطية بين نزعة الخلود ونزعة التملك، فالحاكم الذي يتمكن من حكم رقعة جغرافية يحاول أن يفرض هيمنته عليها وعلى من يسكنها وما يوجد فوقها وتحتها، فهو يعتبر نفسه المالك الحقيقي والوحيد لكل هذه الموجودات مادام يمكن أن ينالها بسلطته أو بأمواله أو عن طريق أعوانه وأزلامه، وبالتالي فهو يدخل كل شيء في حيازته تأكيداً لسطلته عليه.

فشغف الحكام بالثراء ليس حالة خارجة عن تركيب شخصية الحاكم بل هي جزء من تكوينه الفكري والنفسي وهذه النزعة لا تعبر عن التكامل في مناهج السلطة بقدر ما تعبر عن الإنحطاط الذهني والنفسي الذي يرافق تراكمات الفعل السلبي في سبيل الخلود.

في الخاتمة:

جاءت هذه الدراسة الموجزة المستخلصة من مجمل دراسات كتابي فلسفة نهاية التاريخ، لتعبر عن خلفيات الحكام والملوك الذين أتاحت لهم ظروف تاريخية حرجة ليرتقوا كراسي الحكم والعروش على الرغم من عدم أهليتهم للحكم، وهذا ليس مستبعداً في الظروف السلبية لحركة التاريخ حين تتراكم عناصر الفعل السلبي كنتاج لانحرافات الامم عن مساراتها الانسانية، ولتبنيها قيما منحطة آلت بها أن تتحول من مجتمعات منتجة إلى مجتمعات خاضعة غير قادرة على تحقيق غاياتها.