(الدولة التي يتبادل نظام الحكم فيها والشعب النظرة السلبية تجاه بعضهم البعض لا يمكن أن تكون دولة حديثة حقيقة بل هي شبح دولة)
تكلمنا في مقال سابق عن نظرة النظام إلى المواطن في العراق، واتضح أن أنظمة الحكم المتعاقبة في هذا البلد تحمل صورة سلبية عن مواطنيها، بحيث يصبح المواطن الجيد لديها هو المواطن الخاضع والتابع والقانع بفكر وسلوك النظام مهما كان منحرفا ومستهترا. واليوم بودي في هذا المقال أن أتطرق إلى الطرف الثاني من المعادلة ألا وهو المواطن، لمعرفة الكيفية التي ينظر بها إلى نظامه الحاكم، فهل يحترم هذا المواطن النظام ويتفاعل بشكل ايجابي مع مرتكزاته الفكرية والعملية، ومع رموزه السياسية؟، أم انه يزدريه وينصاع له بداعي الخوف والعجز؟. حقيقة أن الإجابة عن هذه التساؤلات تحتاج إلى دراسات أعمق وأوسع من هذا المقال، لوضع الإجابات الدقيقة لها، وربما تحتاج أيضا إلى إجراء استطلاعات ميدانية تشمل شريحة واسعة من أبناء العراق، ومن مختلف الفئات والمكونات، ومع ذلك سنقتصر للإجابة عنها هنا على الوقت الحاضر الذي يعيشه العراقيون، فبعد عشر سنوات من سقوط نظام صدام حسين، ومن المخاضات العسيرة، التي مر بها هذا الشعب في إطار عملية سياسية غير واضحة المعالم، يحتاج المهتمون بالشأن السياسي والاجتماعي إلى أن يركزوا اهتمامهم على قاعدة بناء الدولة العراقية ألا وهو الشعب لمعرفة رأيه بنظامه الحاكم، لان هذا الرأي مهم جدا للحكم على نجاح بناء الدولة من عدمه. لا يخفى أن الناس في هذه البلاد اعتادوا على استهتار الحكام بمقدراتهم، ليس من خلال تجربة الدولة الحديثة التي رأت النور مطلع القرن العشرين المنصرم فحسب، بل قبل هذا التاريخ بكثير، مرورا بالعهد العثماني والعهود السابقة له، وصولا إلى التصورات المحفورة في ذاكرتهم الثقافية المرتبطة بالعهدين العباسي والأموي، وربما ما قبلهما، فكانت الصورة النمطية المرسومة عند الناس عن السلطة برؤاها وقراراتها ورجالاتها أنها أنظمة تغلب وقوة لا أنظمة تعبر عن حاجات سياسية، ونفسية، واجتماعية، واقتصادية، وثقافية تحملها الجماعة السياسية المحكومة، نعم قد تكون هناك استثناءات لهذه الصورة تركت بصماتها في المخيال الجمعي الشعبي إلا أنها عبارة عن ومضات باهتة، لا تكسر الانطباع العام. لقد كانت الحاجة الأولى، والمطلب الملح الأبرز، الذي كان يجب أن يبادر إليه صناع القرار الذين جاءوا بعد 9/4/2003 هو تغيير صورة النظام السلبية في عين شعبه، لكسر الجمود في العلاقة بين الطرفين، ومد جسور ثقة متعددة تجعل التفاعل ايجابيا بين الحاكم والمحكوم، فالعراق بعد التاريخ أعلاه لم تكن حاجته الملحة الأكبر إقامة صروح عمران جديدة، بقدر ما كان بحاجة إلى وضع مرتكزات اجتماع جديدة، ورؤى في السلطة جديدة، ورجال سلطة من نمط جديد غير مألوف، تؤسس لعلاقات جديدة بين الحاكم والمحكوم، تعيد ما تهدم في الإنسان، مهما كان انتماءه الاجتماعي، وفكره السياسي، وتثور هذا الإنسان، فتجعل طاقة الخلق والإبداع تتدفق في عروقه من جديد، ليكون الأداة الأساسية في إقامة صروح العمران على مختلف المجالات. لكن للأسف هذا لم يحصل، لان ما حصل على ارض الواقع هو أن الصورة السلبية التي حملها المواطن عن نظامه الحاكم ازدادت سوداويتها، وتفاقم خطرها، فالمرحلة الحالية من تاريخ الدولة العراقية تنطوي على أسوء انطباع حمله الناس عن نظامهم الحاكم لأسباب عدة: أولا: عدم اختلاف كثير من أفراد النخبة السياسية الحاكمة في هذه المرحلة عمن سبقوهم، سواء في سوء الإدارة، والتخبط في اتخاذ القرارات، والاستهتار بمشاعر الناس، أو في تركيزهم على مصالحهم الشخصية الضيقة، وإهمال المصلحة العامة، ويكفي لكي يستدل المتابعون على هذه الحقيقة أن يراجعوا كتابات كل من الكاتبين الكبيرين حنا بطاطو وعبد الرزاق الحسني رحمهما الله عن تاريخ العراق الحديث، ليكتشفوا أن النخبة السياسية في العراق تغيرت تسمياتها، لكن لم تتغير في طبيعة سلوكها، وكأن البلد يدور في حلقة مفرغة من الابتلاء بهذه النخبة. ثانيا: عدم كفاءة المنظومات الإدارية، والقانونية، والمؤسساتية التي يرتكز عليها النظام، فبعد عشر سنوات لم يتغير شيء في هذه المنظومات، إذ لا زال المواطن يلقى الأمرين من سوء الإدارة عند مراجعته لمؤسسات دولته العتيدة، ولا زال القانون أداة طيعة بيد أصحاب السلطة والنفوذ يمطونه حسب أهواءهم ورغباتهم، فيفرض احترامه على البسطاء، ويسمح بتجاوزه من الأقوياء، ولا ينتصف فيه للمظلوم من الظالم، ويجري التعامل فيه بانتقائية مؤلمة، ولا زالت مؤسسات الدولة هزيلة، وهشة، ولا تلبي حاجات الناس وطموحاتهم. يترافق كل ذلك مع تنامي كارثي للفساد المالي والإداري، مما يزيد الطين بلة، ويفاقم النقمة الشعبية على النظام. ثالثا: غياب الرؤية التي يرتكز عليها بناء الدولة ونظام الحكم فيها، فكل الدول تحتاج عند بنائها إلى رؤية يتحلق حولها الحاكم والمحكوم، وتشخص الأبصار للوصول إليها، وأحيانا هذه الرؤى تصبح عبارة عن أساطير يتناقلها الناس، وكثير من هذه الأساطير تؤسس على الكذب لمجرد امتلاك الرؤية الموحدة الجامعة، فالدول عندما تبنى يجب أن يدرك بناتها أنها ليست حجارة جامدة تركم بعضها فوق بعض، بل هي طاقة حية بحاجة إلى بث حيوية الحياة فيها، وهذه الحيوية لا تكون إلا من خلال وجود الرؤية المناسبة للحاضر والمستقبل، خذ على سبيل المثال الاتحاد السوفيتي السابق كانت له رؤية ماركسية معينة ترسم مسار حركة الدولة في الحاضر والمستقبل، وألمانيا النازية التي تشدق فوهررها بالرايخ الألماني والجنس الآري النقي الذي سيحكم لألف عام، وأمريكا التي تستند رؤيتها إلى رسالة الحرية والسلام الخيرة المزعومة التي تحملها إلى العالم، ومن التجارب القريبة يمكن الإشارة إلى الرؤية التي تحملها كل من إيران وإسرائيل ليدرك نظاميهما أنفسهما من خلالها. وإذا رجعنا إلى تجربة الرسول صلى الله عليه وآله عند بناء الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، سنجد أنها دولة بالمعنى الحديث للكلمة وتحمل رؤيتها المحفزة للناس فيها، وخير ما نستدل فيه على ذلك، تلك الحادثة المهمة التي حدثت في السنة الخامسة للهجرة النبوية الشريفة، عندما كان المسلمون يحفرون الخندق حول المدينة، وهم قلة، استعدادا لمواجهة عدوهم، إذ غلظت صخرة على سلمان الفارسي، فلم يتمكن من كسرها، فأخذ الرسول صلى الله عليه وآله المعول منه وضرب الصخرة ثلاث ضربات، لمعت منها ثلاث لمعات، وعندما استفسر سلمان (رض) من الرسول عن الأمر قال له: " أما الأولى فان الله فتح علي بها اليمن، وأما الثانية فان الله فتح علي بها الشام والمغرب، وأما الثالثة فان الله فتح علي بها الشرق "، وهذه الحادثة ينبغي أن لا يمر عليها الناس مرور الكرام، بل هي تدخل في معيار بناء الدولة بالرؤية التي ترتكز عليها عند تأسيسها. وإذا أضفنا هذه الحادثة والحوادث الأخرى المناظرة لها إلى الآيات التي تحفز المسلمين على الحركة والعمل، وتمدهم بالثقة والحيوية بانتصار مشروعهم السياسي، كقوله تعالى: " إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ".. ستجد أن الدولة الإسلامية الأولى – أيضا – تأسست على رؤية عظيمة زودت المؤمنين بمشروعها السياسي بطاقة جبارة ومذهلة حققت المعجزات. وانطلاقا مما تقدم، نجد أن الدولة العراقية اليوم، تفتقر إلى وجود مثل هكذا رؤية، فلا نظام الحكم يعرف ما يريد، ولا الشعب المحكوم يعرف ذلك، فالدولة لم تحظ بقادة مؤسسين يمنحون نظامهم الحاكم وشعبهم ذلك، وان الارتداد السلبي لفقدان هذه الرؤية تجده في تلك اللامبالاة المتسيدة على المشهد السياسي العراقي، والتخبط الأعمى الذي ينخرط فيه الجميع، وعدم التلاحم بين أفراد النخبة السياسية، وعدم التفاعل الايجابي بين الحاكم والمحكوم، والانشغال ضيق الأفق بالمصالح الشخصية والفئوية وهموم الحياة اليومية.. إن هذه الأسباب الثلاثة، وغيرها، تجعل نظرة المواطن إلى نظامه الحاكم في الوقت الحاضر، تشكل امتدادا للنظرة السلبية المنغرسة في وجدانه وضميره الموروث، والتي فشل النظام اليوم في تغييرها، ذلك النظام الذي لا يحظى إلا برضا الناس الوصوليين، والمنتفعين، وأصحاب الغرض السيئ، والوعي السياسي السطحي الذي لا يدرك حقائق الاجتماع والعمران. والدولة التي يتبادل نظام الحكم فيها والشعب النظرة السلبية تجاه بعضهم البعض لا يمكن أن تكون دولة حديثة حقيقة، بل هي شبح دولة، سيعاني نظامها السياسي وشعبها من تقلبات حادة ومؤلمة حاضرا ومستقبلا، فإذا كانت الرسالة التي ينطوي عليها هذا المقال قد فهمت بشكل صحيح، فالأمر سيحتاج إلى وقفة جادة ومخلصة من الذين يحملون حب هذا البلد في عقولهم وقلوبهم من السياسيين ورجال الدين والقانونيين ورجال الفكر والثقافة والأدب ومن جميع العراقيين لإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح قبل فوات الأوان.
|