ثلاثية شهر الله... بقلم: نزار حيدر

 

 

 

 

 

 

  يتكامل الوصف (القرآني النبوي العلوي) عند الحديث عن شهر الله الفضيل شهر رمضان المبارك وخصوصياته والتزاماته وجوهر قيمه، والذي عاد الينا مرة اخرى لنتفيأ بظلاله الكريمة والمباركة.

   فلقد وصف رسول الله (ص) شهر الله بقوله في خطبته المعروفة التي استقبل بها الشهر{أيّها الناس إنّه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة و الرحمة و المغفرة} وهذه الثلاثية هي جوهر رسالة الاسلام، وان كل من يعمل على النقيض منها او انه يسعى لتحقيق غيرها او يتحايل عليها فهو لا يمثل الاسلام لا من قريب ولا من بعيد، ولذلك فان على كل مسلم، ان كان صادقا مع الله تعالى ومع نفسه، ان يتميز في هذا الشهر الفضيل بهذه الثلاثية الرائعة، ومن ثم ليستصحبها في حياته اليومية مع كل من يتعامل معه من بني البشر، بلا تمييز.

   اولا: البركة، فالمسلم يجب ان يكون بركة في مجتمعه، ان بلسانه او بفعله او بمعاشرته للاخر، قريبا كان او بعيدا، والى  هذه الحقيقة اشار القرآن الكريم يصف نبي الله عيسى المسيح عليه السلام {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا* وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} وانما يكون المسلم بركة في مجتمعه عندما يكون كلامه خيرا لا لغو فيه، فلا يحرض على العنف والكراهية، ولا يحرض على التفرقة، غير سباب ولا لعان، يحاور بعقل ويتحدث بمنطق ويناقش برؤية سليمة، يحترم خصوصيات الاخرين ولا يطعن بمتبنياتهم ولا يستهزئ بما يؤمنون به.

   ان فقهاء التكفير الذين يحرضون على العنف والكراهية والغاء الاخر، لا يمثلون الاسلام في شئ، لانهم يعملون خلاف وصف شهر الله الفضيل الذي اراده المشرع بركة لا نقمة فيها، بل انهم سيكونون مصداق قول رسول الله (ص) في هذه الخطبة عندما قال { فانَّ الشقيَّ من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم} فهل يتوقع فقهاء التكفير انهم سينالون غفران الله تعالى في شهره الفضيل اذا ما ظلوا يحرضون على الحقد والكراهية والتكفير والغاء الاخر، ما يبيح دماء الناس ويغرر بالشباب لقتل النفس المحترمة وتدمير البلدان؟.

   ولقد تحدث امير المؤمنين عن هذه الخصلة وكيف يكون المرء خدوما ومباركا في مجتمعه من خلال فعل الخير انى حل وارتحل، يقول (ع) {افْعَلُوا الْخَيْرَ وَلاَ تَحْقِرُوا مِنْهُ شَيْئاً، فَإِنَّ صَغِيرَهُ كَبِيرٌ وَقَلِيلَهُ كَثِيرٌ، وَلا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: إِنَّ أَحَداً أَوْلَى بِفِعْلِ الْخَيْرِ مِنِّي فَيَكُونَ وَاللهِ كَذلِكَ، إِنَّ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ أَهْلاً، فَمَهْمَا تَرَكْتُمُوهُ مِنْهُمَا كَفَاكُمُوهُ أَهْلُهُ} وعنه عليه السلام { إِنَّ لِلَّهِ عِبَاداً يَخْتَصُّهُمْ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ، فَيُقِرُّهَا فِي أَيْدِيهِمْ مَا بَذَلُوهَا، فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا مِنْهُمْ، ثُمَّ حَوَّلَهَا إِلَى غَيْرِهِمْ} وفي حديثه الى الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الانصاري قال {مَنْ كَثُرَتْ نِعَمُ اللهِ عَلَيْهِ كَثُرَتْ حَوَائِجُ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَمَنْ قَامَ لله فِيهَا بِمَا يَجِبُ عَرَّضَهَا لِلدَّوَامِ وَالْبَقَاءِ، وَمَنْ لَمْ يَقُمْ لله فِيهَا بمَا يَجِبُ عَرَّضَهَا لِلزَّوَالِ وَالْفَنَاءِ}. 

    ثانيا: الرحمة، فالمسلم يجب ان يكون رحيما في مجتمعه، لا يقتل ولا يعتدي على حقوق الاخرين، فلم يعين الله تعالى وكيلا له بين عباده، يعتدي على هذا ويقيم الحد على ذاك بلا سلطة شرعية او قانونية، كما تفعل اليوم ميليشيات الجماعات التكفيرية والظلامية التي تعتدي على محال الحلاقة مثلا بعد تحريم عملها، او على بيوت الناس بحجة فعل المنكر، وغير ذلك من الاعمال والافعال الشنيعة التي تتعارض وتتناقض مع قيمة الرحمة التي وصف بها رسول الله (ص) شهر الله الفضيل، تحت مسمى (تطبيق شرع الله تعالى وحدوده) والشرع منها براء براءة الذئب من دم يوسف، فالاعتداء على خصوصيات الاخرين، والتدخل في حرياتهم الشخصية، بمثابة الاعتداء على كرامتهم، الامر الذي حرمه الله تعالى لانه يتناقض ومبنى العقلاء.

   لقد بعث الله تعالى رسوله الكريم رحمة للعالمين، وليس لجماعة دون اخرى، فلماذا لا يتصف المسلم بهذه الصفة العظيمة لينعم المجتمع على يديه بالامن والاستقرار والهدوء والسكينة والاخوة والوئام؟ الم يصف القرآن الكريم رسول الله بقوله {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} فلماذا، اذن، لا يرحم بعضنا البعض الاخر؟ فلا الكبير يرحم الصغير ولا الرجل يرحم المرأة ولا الغني يرحم الفقير ولا العالم يرحم المتعلم، ولا السلطة ترحم المجتمع، وبعد كل هذا العسف والظلم المجتمعي المتراكم والمستمر ننتظر ان يرحمنا الله في شهره الفضيل؟ هل يعقل ذلك وقد ورد في الماثور {ارحم ترحم} {ارحم من في الارض يرحمك من في السماء}؟.

   ان علينا ان نتراحم فيما بيننا، ولو بالكلمة الطيبة التي يصفها رسول الله (ص) بالصدقة، لننتظر عند ذاك نزول رحمة الله تعالى علينا، كافراد وكمجتمع، ولقد اوصى امير المؤمنين عليه السلام مالكا الاشتر لما ولاه مصر بالرحمة في تعامله مع الرعية، قائلا له {وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَالْـمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإمّا نظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ}.

   ثالثا: المغفرة، فالمسلم يغض النظر عن الكثير من اساءات الاخرين اليه، فلا يحاسب على كل شاردة وواردة، ولا يتوقف عند كل كلمة تقال ضده او عنه، انه يبحث عن كل حجة او عذر ليغفر الاساءة، او يكظم غيضه فيكون مصداق قوله تعالى {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} ولقد اوصانا امير المؤمنين (ع) بحسن الظن ما وجدنا اليه سبيلا بقوله {لاَ تَظُنَّنَّ بِكَلِمَة خَرَجَتْ مِنْ أَحَد سَوءاً، وَأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مُحْتَمَلاً}. 

   يجب ان نشيع ثقافة التسامح والعفو في المجتمع في هذا الشهر الفضيل، لتتحول بمرور الوقت الى طبيعة مجتمعية ما يقلل التصادم والتقاطع والتشنج والعصبية بين ابناء المجتمع الواحد، وما يساعد على حل مشاكلنا بالطرق السلمية بعيدا عن التكفير والتخوين والعصبية والقطيعة والخصام والنزاع.

   وبالتسامح والعفو تبني الشعوب امجادها، وبه تتجاوز صغائر الامور، كما انها بالتسامح تحقق مبدا التعايش السلمي والاعتراف بالاخر ونبذ العصبيات التي تقتل الحاضر وتضيع عليه المستقبل، وانما نجح رسول الله في بناء مجتمع متعدد الاديان والقوميات بالتسامح والعفو الذي يتجلى بسعة الصدر والقبول بالاخر ونسيان او تناسي الماضي واساءاته من اجل المصلحة العامة، شريطة ان لا يستغل الاخر هذا التسامح للطعن والتآمر، ولقد حدثتنا الآيات عن ذلك بقولها تصف الرسول {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} وكذا في قوله عز وجل {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}.

   ان المرء الذي يغفر للاخرين زلاتهم واخطاءهم بحقه، يغفر الله له ذنوبه ويرحمه، فلا يحاسبه حسابا عسيرا، فالله تعالى غفار رحيم، اذا راى عبده يتجاوز عن المسيئين بحقه، والعكس هو الصحيح، فاذا وجد من العبد غلظة وتشددا في محاسبة الاخرين على اخطائهم، فانه سيشدد عليه حسابه، يقول امير المؤمنين في عهده للاشتر { يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ، وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ، يُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي الَعَمْدِ وَالْخَطَاَ، فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلَ الَّذِي تُحِبُّ أَنْ يُعْطِيَكَ اللهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ، فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ، وَ وَالِي الاْمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ، وَاللهُ فَوْقَ مَنْ وَلاَّكَ! وَقَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ، وَابْتَلاَكَ بِهِمْ} كما تحدث القرآن عن هذه المعادلة بقوله {إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} بل انه قدم المغفرة على العمل الصالح في بعض الايات كقوله {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} فالحلم من صفات الله تعالى فلماذا لا نتعلمها في هذا الشهر الفضيل ونعود انفسنا عليها لنستصحبها او بعضها في حياتنا؟ يقول عليه السلام {الْحِلْمُ وَالاْنَاةُ تَوْأَمَانِ يُنْتِجُهُمَا عُلُوُّ الْهِمَّةِ} و {الْحِلْمُ عَشِيرَةٌ} و {الْحِلْمُ غِطَاءٌ سَاتِرٌ، وَالْعَقْلُ حُسَامٌ قَاطِعٌ، فَاسْتُرْ خَلَلَ خُلُقِكَ بِحِلْمِكَ، وَقَاتِلْ هَوَاكَ بِعَقْلِكَ}. 

   تعالوا، ايها الاحبة، ننزل شآبيب رحمة الله تعالى في هذا الشهر الفضيل، بالتغافر فيما بيننا، فلا نتوقف كثيرا عند زلات اللسان، ولا نتلاوم اذا اخطا احدنا بحق الاخر، لنساهم في اشاعة ثقافة المغفرة والتجاوز والتسامح والصفح عن الخطا في المجتمع، ما يساعدنا على اصلاح انفسنا ومجتمعنا.