هل هو انقلاب عسكري؟ نعم هو كذلك . لكنه ثورة شعبية ايضا رفعت كارتا احمر بوجه مرسي وقالت له ارحل . للانقلاب حكاية ، وللثورة حكاية ، وبالتقاء الحكايتين تشكلت شرعية جديدة ، وجعلت ذهاب مرسي ممكنا .
لقد كرر مرسي كلمة الشرعية بخطابه نحو 60 مرة، دون ان يكلف نفسه النظر الى الشوارع ، حيث كانت شرعية جديدة تولد . والأهم أنه لم يقل جملة واحدة يشير فيها الى الانشقاق الوطني الخطر الذي نزل ممثلوه السياسيون الى الشارع ، ولم ير بعيون المأزق الوطني ، الصورة الكلية ، بل إنه أوحى أن الامر لن ينتهي بسهولة ، وأن هناك دماءً ستسفك .
كعادته، بدا مرسي ملقّنا ، ولم تسعفه فرديته بغير وقفة معلم ينحت جملا تائهة يكررها. إن عقائدية مرسي ، وضعف تدريبه السياسي واللغوي، وانعدام خياله الاجتماعي ، شكلت مادة للتندر ، وشبّه بيونس شلبي (ميجمعش) جملة واحدة تفي بالغرض. وفي آخر يوم له في الرئاسة كان خطابه يشير الى أن ليس هو وحده الذي (ميجمعش) بل وملقنه الكبير ، المرشد العام للاخوان ايضا.
سيحكم التاريخ على هذا الملقن الذي يقف خلف السياسة العامة للاخوان ، أنه فرّط بفرصة تاريخية يستطيع فيها الاخوان البرهنة على انهم ليسوا حزبا يتمسك بنزعة مركزية تكفّر وتحكم على المجتمع بمقتضيات اديولوجية دينية ، وانهم قادرون على التحول الى حزب ديمقراطي من النوع الحديث . لقد فقد الاخوان ومعهم الرئيس كل الكلمات ما عدا كلمة الشرعية ، حتى انهم لم يقدموا اية معلومات او تحليلات للشروط التي جعلت مصر تعيش ازمة دائمة في ظل قيادتهم الا بالفاظ تآمر العلمانيين والليبراليين والفلول وإعلام الفلول ، كأنهم مجرد ضحايا تآمر.
في اللحظة التي بات فيها الاخوان خارج الملعب ، فطن البعض منهم الى ان النخب الليبرالية واليسارية والديمقراطية التي طالما وقفت ضد العسكريين ، وهتفت في الشارع بسقوطهم ، تواطأت هذه المرة معهم ، لتنفيذ الانقلاب . لكنهم من دون أن يصفوا اسباب هذا التحول ، اتهموا كل القوى التي تظاهرت ضدهم بالخيانة ، وأنهم المخلصون الوحيدون للديمقراطية .
من دون تحليل كاف للوضعية الثورية التي واجهها الاخوان منذ الثلاثين من يونيو - حزيران ، ستضيع وقائع كان فيها الاخوان المسلمين الاقرب الى العسكريين منهم الى القوى الديمقراطية التي ناضلت معهم لاسقاط نظام حسني مبارك . إن البراغماتية التي يتحلى بها الاخوان هيئت لهم مكانة سياسية والاحتفاظ بقوى جاهزة ، فلماذا يعاب على القوى الديمقراطية في ظل ازمة ثورية خانقة موقفها البراغماتي بالتنسيق مع العسكريين؟
المعروف أن المجلس العسكري الذي أدار البلاد بعد سقوط مبارك احتاج الى حليف سياسي جماهيري ، فاختار الجماعة الاكثر تنظيما الا وهي الاخوان المسلمين . لقد كشفت وقائع عديدة حقيقة هذا التحالف ، لكن المرحلة الانتقالية بتعقيداتها أسدلت ستارا من الدخان عليه . مقابل هذا لم تمتلك القوى الشبابية التي أطلقت الثورة خبرة في ادارة الصراع لمرحلة ما بعد مبارك ، وعلى نحو ما وجدت نفسها تستهلك قواها في الشارع ، ثم انكشفت عيوبها عند الانتخابات ، فهي لم تحظ بغير شرفها وأصالتها.
ازاء ذلك أدار الجيش علاقاته مع جميع القوى السياسية بانحياز ، مختارا تقاليده المعادية للديمقراطية ، حتى وهو يشرف على انتخابات الرئاسة . لقد كان غير متيقن من أي شيء ، فالدولة البوليسية التي ورثها مرتبكة ، ولا تمتلك معلومات صلبة غير تقاليدها البيروقراطية ، كما أن موقفه السلبي من القوى الليبرالية والثورية جعله يسلّم بما سميّ بـ (الاكثرية) ، أي الاسلام السياسي بقيادة الاخوان المسلمين . لقد اتصف موقف الجيش في ادارة المرحلة الانتقالية بارتباك شديد ، إذ وقف متفرجا على نشاطات البلطجية ، وتساهل في الاعتداءات الطائفية ضد الاقباط . هذه المواقف جعلته ضعيفا حتى من حلفائه الاخوان ، ولاسيما بعد انتخاب مرسي رئيسا للجمهورية.
في اول فرصة استخدم مرسي صلاحياته الدستورية بإقالة قائد الجيش طنطاوي ورئيس هيئة الاركان اللواء سامي عنان ، مضفيا على الاقالة حالة احتفالية مطمئنة ، إذ عيّنهما مستشارين له ومنحهما وسامين رفيعين. عندما جاءت عملية سيناء الارهابية بقتل الجنود والضباط المصريين بدم بارد بدا واضحا أن العسكريين كانوا قد أغمضوا عيونهم عن نشاط خطر يديره الارهابيون في سيناء الذين اطلق سراح عدد من قادتهم بتوصية من الاخوان . لقد شعر قادة الجيش أنهم باتوا مكشوفين جدا وأن هذا الحدث هزّ مؤسستهم وأفقدها وزنها عند الناس . ثم جاءت عملية اختطاف الجنود السبعة في سيناء الذين استردتهم علاقات الرئاسة المصرية بالخاطفين وليست الداخلية ولا حملات الجيش ، ما اثار التعليقات عن تواطؤ الاخوان مع الارهابيين ، ليتوج هذا التواطؤ باغتيال الضابط المكلف بالتحقيقات في هذا الحادث.
إن مرسي الذي اشتكى من ظلم الاعلام له لم يستطع ان يقدم معلومة واحدة تكشف ما جرى ، وبرر صمته قائلا ليس كل ما يحدث يقال . لقد استوعب الجيش الدرس وادرك انه بات يُستخدم بطريقة سيئة.
كان مرسي يخسر شعبيته بسرعة في بلد تحول توا الى الحكم المدني . كل الاجراءات التي اعتمدها أكدت انه لم يستطع ان يتعرف على مشكلة دولة بيروقراطية هائلة الحجم هزت كيانها تغييرات سياسية . بدلا من حل مشكلات الاقتصاد الاساسية ، اصطدم بمؤسسة القضاء التي تحظى بالاحترام ، وقام بتوفير غطاء شرعي لصلاحياته كما في الاعلان الدستوري السيء الصيت ، وباختيار لجنة كتابة الدستور بغالبية اسلامية ، ليعترف فيما بعد هو نفسه بوجود اخطاء في اللجنة وفي كتابة الدستور ، برغم ان القوى المدنية قدمت تحاليل كافية في هذا الشأن. وببساطة اهتم الاخوان باحتلال الدولة والهيمنة على المجتمع اكثر من اهتمامهم بتلبية مطالب الشعب الذي واصلوا الاصطدام بطلائعه الشابة.
ما الشرعية؟ إنها عملية معقدة لا تظهر نتائجها من صندوق الانتخابات فقط . إنها صناعة كاملة ، وصناعة معقدة بشكل استثنائي في بلدان جربت طويلا سلطة القائد الملهم الذي تصبح كلماته هي القوانين .
قال الناشط المصري الدكتور عمرو حمزاوي ، عضو الانقاذ الوطني ، إن جماعة الاخوان وحزبها الحرية والعدالة يقبلون بالاجراءات الديمقراطية ولا يمتلكون القدرة على قبول القيم الديمقراطية. أشار ايضا إلى أن اختزال الديمقراطية في صندوق الانتخابات غير صحيح.
هذا بالضبط ما كتبته اكثر من مرة . إذا كان اسلاميو مصر لا يصرحون بهذا الامر علنا ، فإن جماعة حزب (الدعوة) يصرحون به علنا ، فهم مع الآلية الانتخابية وليس مع القيم الديمقراطية. الآلية مجرد "رافعة ، عتلة ، تجريد للكميات ، استخدمتها الدكتاتوريات نفسها" .. "بعد تحطيم القوى السياسية العلمانية والليبرالية واليسارية انتصرت الكمية على القيمة".
ازاء ذلك فإن البلدان العربية لم تستفد من التمفصلات السياسية والثقافية والاقتصادية القائمة بين بلداننا والغرب في قضية الديمقراطية . السياسة الاميركية في الشرق الاوسط كانت اختزالية وانتقائية وتجريدية ، ولاسيما في قضية الديمقراطية. لقد قلت : "الامريكان الذين يمتلكون افضل علماء وباحثي علم الاجتماع والسياسة لا يتفحصون الوضعية الاجتماعية والثقافية والسياسية قبل صناديق الانتخابات ، بل ارادوا لنا أن نضع كل براهيننا كديمقراطيين في هذه الصناديق وحدها".
تساءل حمزاوي : "هل إدارة التحول الديمقراطي تقتصر على وجود رئيس مدني؟ إنها مسألة مهمة لكنها ليست كافية. ألسنا مع رئيس مدني أعاد الاستبداد ، وتوظيف الآلة الامنية في مواجهة الغضب الشعبي، وآلة إعلامية تشوه المعارضين كما كان يحدث في السابق".
في ليبيا شمل العزل السياسي نحو ربع السكان .. وبينهم الكثير من التقنيين والسياسيين المحنكين والمؤهلين ، فهل أرادوا بناء ديمقراطية ام قلعة؟ إن التفاهة السياسية التي يشيعها المتأسلمون تحول الشرعية الى يد سوداء ضاربة للدفاع عن (الثورة) . هذا ما اراده مرسي من اعلانه الدستوري . لقد فكر بالانتقام ليس الا.
لقد اختزل الاسلاميين القضايا التي تخص قيادة الدولة والمجتمع الى قضايا سياسية . لماذا؟ لانهم يريدون ازاحة الخصوم ، وهدفهم هو السيطرة وليس بناء مجتمع ديمقراطي. في الحالة العراقية انطلق السياسيون من الاعتبارات السياسية وحدها ، اي من نسيج الخنادق الطائفية والاثنية والمناطقية والعشائرية التي طورت مصالح ضد بعضها البعض ، في حين تهربوا من فحص حالة الدولة ، كخدمات الماء والكهرباء والصحة وحالة الاقتصاد والصناعة. يبدو أن جميع الكتل التي تدير وزارات تفر من هذا النقاش الحاسم ، بما فيها الحكومة ، ابتداء برئيسها ، إذ لا توجد أي انجازات ، والخراب يزداد عمقا وانتشارا. فما قيمة الشرعية ازاء وضعية يغطي فيها الصراع السياسي والفساد الدولة ويلحق بها العار على مدار الساعة.
في التجربة العراقية كان من نتائج الانتخابات المبكرة في ظروف تلاشي الدولة والظهور القوي للمليشيات الطائفية والمناطقية ، أن الطوائف سيّست وطيّفت السياسة ، وجرى تأجيل عملية بناء الدولة المدنية لمصلحة سياسيين فاسدين.
بعد عهود طويلة من الدكتاتورية والرجعية التي حمتها الولايات المتحدة ، وما يسميه برنارد لويس العيش تحت ظل (الطغاة الاصدقاء) والتجاهل المتعمد لتطلعات النخب الليبرالية في منطقة الشرق الاوسط ، يعيد هذا المنظّر الثقافي - الامبريالي تقييم الموقف قائلا : "إن الإسلام السياسي يتغير عبر الزمن، ولكن ليس بالضرورة إلى الأفضل. إن الاندفاع نحو الأسلوب الغربي في الانتخابات، بمعزل عن تقديم حلول لمشاكل المنطقة، يزيد من خطورة هذه المشاكل، ولذا أنا أخشى جاهزية جماعات الإسلام السياسي الراديكالي لاستغلال هذا المسار من دون هداية ورشد، في انتخابات حقيقية حرة ونزيهة من المرجح أن تفوز بها الأحزاب السياسية الراديكالية".
يقول كذلك "نحن في الغرب نميل إلى التفكير في الديمقراطية طبقا لمقاييسنا الخاصة. هذا أمر طبيعي وعادي، وهنا أقصد الانتخابات الدورية، غير أن من الخطأ أن نفكر في الشرق الأوسط طبقا لهذه المفاهيم التي يمكن أن تؤدي إلى نتائج كارثية، كما شاهدنا بالفعل في أماكن كثيرة.. حماس مثلا لم تؤسس نظاما ديمقراطيا عندما وصلت إلى السلطة من خلال انتخابات حرة ونزيهة. شخصيا، ثقتي منعدمة وأنظر بخشية لانتخابات حرة، مفترضا أن ذلك ممكن أن يحدث، لمجرد أن الأحزاب الدينية تتمتع حاليا بميزة القوة".
مثال حماس صغير . الامثلة الاخرى ، كالعراق بوجه خاص ، تلخصت في قيام امريكا بالمطابقة ما بين اجراء انتخابات ديمقراطية وما بين الحصول على الشرعية والاعتراف، وهي تعلم ان الاخيرة عمل معقد في سياق مجتمع انقسامي ، وفي سياق دولي واقليمي متناحر. في الحالة العراقية قضت امريكا على نظام ودولة ، ودفعت باتجاه ولادة نظام بلا دولة نحو حصوله على شرعية عن طريق انتخابات سريعة ادت الى انشقاق سياسي في المجتمع ، ما زلنا ندفع ثمنه. قبل اجراء اصلاحات سيكون من الحماقة المراهنة على مجموعات طائفية القيام ببناء دولة مدنية .
لا اظن أن الناس في مصر يحبون الانقلاب العسكري ، وإذا ما استخدم الجيش عواطف الناس للقفز الى السلطة ، فهذا ليس نهاية المطاف . إن الحركة الوطنية المصرية هي اليوم اكثر يقظة واكثر تمرسا في النضال من اجل الحقوق السياسية. في كل الاحوال ينظّم الناس حساباتهم على اساس التجربة وعلاقات القوى وليس بمقتضى خطاطات تجريدية ينظمها خبراء العلاقات العامة الامريكان. الم نجرب تلك الخطاطات؟ قبل ايام فقط رفع عن العراق البند السابع .. الا يعدّ بقاء هذا البند طيلة كل هذه المدة في بلد له حكومة منتخبة حالة من حالات الشرعية الناقصة؟ إنه مجرد مثال على ما ورثناه وما لم نستطع عبوره الا بالإذلال!
|