ذكريات طفل بغدادي صغير عن ثورة 14 تموز

 

مشاهدات واقعية اكتبها كما رواها لي من عاش تلك الاحداث المثيرة التي شكلت المفصل الاهم في تاريخ العراق الحديث .

الطفل - سكنت حينها في جانب الكرخ , محلة الفلاحات , بداية شارع حيفا حاليا المتقاطع مع شارع النصر او شارع عبد الأله , وهو الاسم الملكي القديم له تيمنا بالوصي على عرش العراق المرحوم عبد الأله خال الملك فيصل الثاني وهذا الشارع يمتد من ساحة الشهداء وينتهي قرب سينما بغداد القديمة ومنطقة علاوي الحلة , وكلها اجزاء من بغداد القديمة التي تعيش حاليا ايام وسنين الاهمال والخراب , فلا هي بالمهدمة لتبنى مكانها بنايات احدث وعمارات سكنية , ولا هي بالمحسنة المعتنى بها كابنية تراثية ولا ازيد .

- قبل السابعة صباحا من يوم 14 تموز والعام 1958 كنت نائما في سطح دارنا لتوقضني اطلاقات ناريه متقطعة ويعلو من داخل البيت صوت المذياع ونشيد الله اكبر الله اكبر , جلست ممسكا دشداشتي وكأني اريد الطيران فلابد ان امرا جللا قد حدث !! فهذه هي المرة الاولى التي اسمع فيها صوت هذا النشيد عاليا ففي المرات القليله السابقة سمعته بخفوت وحذر عندما كان خالي يأتي الى بيتنا ويحول محطة المذياع نحو صوت العرب ليستمع الى المذيع المصري الشهير احمد سعيد يشرح لنا مساوئ حكامنا وعمالتهم للاجنبي والاستعمار , ومحاسن حكام مصر العروبة وخاصة القائد جمال عبد الناصر, وكان يحسن الوصف والايحاء لدرجة جعلتني انا الطفل الصغير منبهرا بهذا البطل المغوار متمنيا اياه حاكما لبلادي بدل نوري السعيد العميل !! والايام حبلى , ثم تغير نشيد المذياع الى صوت جهوري يتلو بيانا مهما ماسمعت منه ..... ايها الشعب العراقي العظيم ... جعلني اقفز من الفراش وانزل الدرج كالسهم متوجها نحو باب بيتنا تتابعني كلمات امي

الأم – هاي وين رايح ؟

سريعا نحو شارع عبد الأله عابرا بيت ام تسواهن ثم مكتب البريد رأيت الناس يتكاثرون قرب تجنيد الكرخ حتى سينما قدري أو بغداد ومن مطعم شباب الكرخ مرورا بمركز الشرطة وحتى سوق الشواكه ومن الناحية الاخرى يتكاثرون قرب محل المصور محي عارف وحتى مطعم الشمس وصولا الى ساحة الشهداء والجسر القديم , ولكن ماذا حدث ؟ عقل طفل مثلي يتلقف الاحداث ولا يفهم المغزى تماما !! هل سقط نوري السعيد ؟ كم مرة كتبتها على الحيطان عندما يحل الظلام ؟ كان ابي النقابي يعرف ويتفهم ولا يحاسب ولكن نقاشاته مع خالي كرهتني بهذا الشخص مع رديفه عبد الأله رغم ان ذلك لم يمنع رؤيتي الدائمة لصورة كبيرة للملك فيصل الثاني معلقه في بهو فندقه الوردة البيضاء في ساحة الشهداء , بررها لي والدي مرة بالقول ... هذا خطية حباب وبريئ ... ولكن اليوم تتصارع الاقدار ويتعالى الضجيج والصراخ وبدأت التجمعات تتكاثر وتتكاثف وتتوجه , وسمعت الناس تهتف الى الرحاب , للرحاب للرحاب ديقاومون ديقاومون .. وسحبتني رجلي مع الذاهبين والمنطلقين نحو سينما قدري ومنها علاوي الحلة ثم الحارثية حيث القصر المخصص لعبد الأله , وتوقفت عند السينما , فرغم كل امان تلك الايام التي تسمح لطفل صغير مثلي ان يتجول مع اقرانه ليل نهار بلا رعب او خوف في تلك الشوارع والساحات ولكني لم اتجاوز يوما وحدي حدود السينما ولا اعرف متاهات مابعدها , وعدت قرب البريد لاجد تجمعات ثانية وهتافات مختلفة اخرى .. للسفارة للسفارة ... للتمثال للتمثال .. وفهمت المقصد فأنا اعرف مكان السفارة البريطانية عند بداية الكريمات بعد عبور سوق الشواكة الذي اقصده غالبا في صباحات الايام الخوالي فقد كان المرحوم ابي (يشتهي) الريوك الصباحي واكون انا الضحية يرسلني للسوق من اجل قيمر وعسل او كاهي بالشيرة وغيرها مع الخبز الحار بالطبع وبذلك يكون تمثال مود على مرمى حجر لاغير, فارس بقبعة يمتطي صهوة جواده فوق قاعدة عالية عريضة وقفت عندها مرارا اتفرج على التاريخ وكنا كأطفال نأتي ونجلس في المساحات الفارغة المحيطة بالتمثال والسياج العالي للسفارة البريطانية ولكن لليوم الموعود واجب اخر لذا ركضت مع المهرولين احاول رؤية اسقاط التمثال رمز تحول التحرير الى احتلال كما في مقوله الجنرال مود المشهورة , ولكن اين لطفل مثلي من قوة او طول لمشاهدة ماسيحصل وسط الالاف ؟ لم ار غير الحبال والتدافع ثم دوي الاسقاط وانا على مبعدة متزايدة من الحدث يجرفني سيل البشر المتلاطم نحو نقطة البداية قرب البريد لتأتي وتمر الافواج والتضاهرات وترتفع صور ورايات , فمن جهة الجعيفر وسوك الجديد وشيخ بشار ترتفع مع المتضاهرين غالبا صور عبد الناصر وجميلة بوحيرد مرفوعة باليد او معلقة على مساطر خشبيه ومن جهة الكريمات والشواكة والعلاوي والصالحية والانباريين تأتي التضاهرات صاخبه ملونة بالرايات الحمراء والمنجل والشاكوش وصراخ احمر علمنه , وتختلط الجموع واميز بعض الهتافات واسمع صرخات تتوالى ... جابوا جابوا .. جابوا لزموه لزموه جابوه سحل , ولم افهم ولكني تفاجئت فقد حطت يد قويه على كتفي واعتصرت يدي وتطلعت الى الاعلى فقد كان ابي ....

أبي – لك هاي وين اشكدوتك ؟

وبدأت بالبكاء والشكوى والتوسل وفهم ابي فقد كان يبتسم .

أبي – زين امشي الفندق جدك , واتفرج من البالكون

كان فندق جدي فندق الروضة في شارع عبد الأله فوق معرض احذية دجلة او الشاكري ووجدتها فرصة سانحة ولحظة رائعة ان تتفرج من فوق رغم ان طولي كله وقتها لايتجاوز ارتفاع محجر البالكون , ولكني الان استطعت ان اميز (الهدف) انه الوصي عبد الأله جيئ به ليعلق بالحبال في شارعه كما علق نظامه بالحبال قادة العراق وشهدائه بعد شنقهم , مجموعة فهد ومجموعة صلاح الدين الصباغ , كل مارأيته مجموعات متكومة فوق شيئ ما تضربه بالاحذية وتطعنه بالسكاكين ووصل الجمع الى فندق دار السلام المجاور لفندق جدي, ومن بالكون الفندق تدلت وربطت الحبال وارتفعت الجثة طويله عريضة ممتلئة بيضاء وردية وسمعت مجاور لي يحدث صاحبه

أحدهم – كصوا اعضائه التناسلية وحطوهه ابحلكة .. قالها بلهجتنا المحلية وانتبهت للتشويه .

كانت الجثة ترتفع لتعلق مع الضرب بالاحذية والطعن بالسكاكين حتى استقرت على ارتفاع ما امام عيني ولم ار دماء تسيل غير من نقطة صغيرة قرب الخاصرة اليمنى وخرجت من فمي كلمة اتذكرها

أنا – وين الدم ورة ضرب السكاكين ؟

اجابني احدهم وكأن التفسير جاهز

هو – هذوله جسمهم كله دهن والسكين متوصل للحم والدم .

وتوالت الاحذية تقذف على الجثة , والجماهير تزدحم ثم جائت لحظة الاثارة وصعد احدهم فوق كتف صاحبه وامسك باحد القدمين وكان يستعمل طبر صغير او أله حادة وظل يضرب على مفصل الساق والقدم , انه يريد فصل القدم وانا منتبه تماما ناسيا طفولتي وعمري وتكاثر الضرب كان شابعا يافعا الى ان قطع القدم ونزل عن كتف صاحبه وظل يمشي وهو يضرب بنفس الاله باطن القدم ويصرخ بكلمات لم اسمعها فقد كان الطنين يملأ اذني , واستمر الحال والجثة معلقة وبدوت وكأني افقد الوعي الذاتي او السيطرة على نفسي لانسجم مع احداث امواج الجماهير المتلاطمة , وتمر الساعات وتأخذ الجماهير الجثة بعد ان لم يعد منظرها يبهرني او يشدني ويقل الناس في هذا الشارع واخر ماحطموه هو العلامة الخشبيه الداله على اسم الشارع , شارع عبد الأله والمنصوبه على عمود حديدي عند ساحة الشهداء قرب الجامع وترتفع فيما بعد علامة جديدة , شارع النصر , واعود بعد الضهر الى الدار واجلس لوحدي ثم لا اتحمل واخرج ثانية وقد حل العصر واعود للشارع الخالي الا من بعض الناس ووجوه اعرفها فقد ميزت شكل جدي ودشداشته وعقاله واذهب اليه وكأني استفهم الخاتمة , كان هنالك تل كبير من الاحذية جمع وسط الشارع , هه ترى هل عاد الناس حفات لبيوتهم بعد حفلة ضرب القنادر؟ واقتربت من جدي ومجموعته من كبار السن حسب تقديري انذاك واسمع

احدهم – يعني منو يستلم اينصبه جمال ؟

أخر – لا قاسم

جدي - اي قاسم بينت

كانت هذه هي المرة الاولى التي سمعت بها اسم الزعيم قاسم وتبدأ بعدها حكاية لاتنتهي , وامسك بي جدي بعد ان شاهدني قائلا

جدي – هاي اشبيك اصفر , اشماكل ؟

ولم ارغب في ان اقول له اني لم اتناول شيئا منذ الصباح ولكنه سحبني من يدي واعادني للبيت حيث استلمتني امي لتغسل وجهي وتجلسني لأكل شيئا وبقيت صامتا لا استطيع الكلام وليس أمامي من منظر اراه غير الجثة تتقطع , وجاء الاكل ومع اول لقمة عملتها لي امي لتحرك سلبيتي وصمتي , انفجر في داخلي بركان اهوج , قفزت سريعا صوب البلوعة التي تتوسط مساحة الدار واستفرغت داخلي كله , معدتي امعائي احشائي , كل لحم اكلته في السنين الماضيه من حياتي , حتى كدت افقد اخر وعيي ولكني جالس وبقيت لا استطيع الاكل لاكثر من ثلاثة ايام راجع اهلي فيها كل من يعرفونه من اطباء الاطفال , الدكتور ناجي يوسف المختار في الكرخ مقابل فندق جدي الى الدكتور سلمان درويش في الباب الشرقي خلف مدرسة الراهبات ولم ينفع كان الدواء يختلف واكتشفته انا واسمه الزمن , فبعد اسبوعين او ثلاثة عادت لي رغبة متابعة الاحداث والاكل طبيعية شيئا فشيئا , رغم ان خبر مثل قتل وسحل (عدوي) اللدود نوري السعيد الذي حصل لاحقا لم يثر عندي الاهتمام المرجو ولفترة طويله قادمة سأكره شكل اللحم وطعمه واكله الى ان يحل النسيان .