هذه هي المرة الثانية التي أعلّق فيها على صديقي عبد الخالق كيطان بمقالة، حدثت الأولى قبل سنة تقريبا على خلفية حديث له عن ترييف بغداد والمجيء بـ(الرعاع) لها. أمّا اليوم فسأقف عند "مشاعره حول قاسم" التي بثها أمس وملخصها أنه يقف ضد حكم العسكر أيا كانوا ثم ينهيها بمقارنة قاسم مع صدام قائلا: "هل أقسو على الزعيم وأنا أحمله مسؤوليات الانحطاط الذي شهدته العقود السابقة؟ لا بأس، فالناس رأته في القمر، مثلما رأت صدام حسين في القمر أيضاً".
الحق أنني أتفهم مشاعر صديقي الشفاف، المتمدن، الذي يكره العسكر ويتمنى لو إنهم عادوا لثكناتهم. لكنني أسأل ـ وهل كان صدام حسين عسكريا كقاسم حتى يقارن به؟ هل كان ضابطا نزا على السلطة بالدبابة أم انه مجرد مدني اختطف الجيش وذهب به إلى حزبه؟
الفرق شاسع بين الأمرين؛ ما جرى بعد قاسم، ليس تدخل العسكر في السياسة، بل اختطاف العسكر في حافلة اسمها البعث والذهاب بهم إلى درب الصد ما رد. وإلّا فإن الدولة العراقية كانت عسكرية منذ أن نشأت على أيدي الضباط الشريفيين، ولدى حنا بطاطو إحصائيات تبين نسبة العسكر للمدنيين طوال السنوات السبعة والثلاثين التي حكم بها الملوك.
لا بل أن موجة الانقلابات في العراق كانت ابتدأت منذ عام 1936 حين قاد بكر صدقي انقلابه الشهير وقتل وزير دفاعه جعفر العسكري وأبعد القادة القوميين. ثم بعد ذلك بسنة، قتلوه وعاد نوري السعيد عبر انقلاب عسكريٍ أبيض يسرد عبد الرزاق الحسني تفاصيله بإسهاب. ومن هذا الحدث، ولد انقلاب 1941، وصولا إلى 14 تموز.
مع هذا، فإن عسكر ما بعد1963 ليسوا شبيهين بمن قبلهم. ليتهم كانوا كذلك، ليتهم اقتدوا بقاسم الذي رفض توزيع السلاح على الناس كي لا تكون حربا أهلية مع علمه أن الفقراء مستعدون للموت فداءً له!
المقارنة غير سليمة ولا تتفق مع معطيات الأحداث؛ صاحبنا كان عسكريا نزيها حكم البلاد وفق المفاهيم السائدة في عصره حيث الجيش يقود المتغيرات السياسية من دون أن تكون لديه أيديولوجيا بالضرورة. أما صدام والبعث فمدنيون آيديولوجيون اختطفوا مؤسسة الجيش وحولوها إلى مطية لتحقيق أفكارهم.
في المقالة ذاتها يقول عبد الخالق كيطان إنَّ قاسم " قُتل ولم يكن يملك ديناراً في جيبه، وكان يتفقد مخابز الصمون، وينام على الأرض، ولو أعدنا شريط صدام حسين لوجدناه يفعل الأشياء ذاتها، في بعض مراحله".
وي وي، أتقارن ذلك القديس العراقي بصدام؟ أتقارن الضابط الرحيم الذي كان شعاره مع قاتليه "عفا الله عما سلف" بطاغية عرف بكونه يقتل على الشبهة ويطيح بالآلاف دون أن يرفَّ له جفن؟ أتقارن من دشّنَ مرحلة المحاكمات العلنية المنقولة عبر التلفزيون بمن أسس محكمة الثورة التي لا ندري بأي قانون تسير؟ ستقول إنَّ محكمة المهداوي كانت مهزلة وأنا أقول ذلك أيضا، لكنها مهزلة دشنت ثقافة المحاكمات العلنية التي هي حتى اليوم غريبة عن بلداننا إذ المعارضون يحاكمون في الظلام ويعدمون في الظلام ثم لا نتوفر حتى على قبورهم!
ثم، بأيِّ منطق يا صديقي تختصر الفرق بين النقيضين، قاسم وصدام، بالقول إنّ قساوة الأخير أشدّ؟ متى كان عبد الكريم قاسيا؟ هل غيّب الآلاف في السجون مثلا؟ هل أعدم أحدا دون محاكمة علنية؟ هل أفادَ من السلطة وبنى لنفسه قصورا؟ أما قولك إنَّ "قاسم لو حكم العراق لثلاثة عقود متتالية لرأينا منه أشياء لا تختلف كثيراً عمن لحقه". فهو شهادة له أنطقك الله بها، إذ ما كان أيسر ذلك بالنسبة له، لو انه ملأ السجون بمعارضيه كجمال عبد الناصر، أو حاكم الآخرين على النية وأعدمهم بالجملة كصدام. لو انه فعل ذلك لبقي في السلطة لخمسين عاما وليس ثلاثة عقود. لكنه لم يكن كذلك فتأمل أعانك الله!