صدى الجرح... قصة قصيرة بقلم: لطيف عبد سالم العكيلي

 

 

 

 

 

 

في ظهيرة يوم نيساني من عام  2005م ، شعر سليم  بنشوة غامرة بعد ان اتم تفاصيل اخر توصيات دراسته التي استلزمت منه ما يربو على العامين من البحث وتحليل ما حصل عليه من  نتائج ارهقته كثيرا  .وبعد استراحة استرخاء قصيرة على بقايا سريره الحديدي الذي ورثه قبل سنوات من والده الذي جاهد حتى اخر ايامه من اجل تامين لقمة العيش لسليم واخوته الذين فجعوا بفقد والدتهم بوقت مبكر، لم يجد صاحبنا ارجح من صديقه مصطفى  لمشاركته فرحة الانجاز التي كانت تبدو لأيام مضت بعيدة المنال .نهض سليم متثاقلا من سريره وارتشف قليلا من الماء ،ثم اتصل بصديقه هاتفيا مبلغا اياه ما وصل اليه الحال ،وما بين شك مصطفى وتصديقه خبر اتمامه الدراسة التي كثر ما اضاعت عليه ساعات من وقت راحته باركه الانجاز بحرارة خشية التفريط بصداقته التي مضى عليها اكثر من عقدين من الزمان .وتعبيرا عن دعمه لمشروعه البحثي ذكره مصطفى الايفاء بوعده الذي قطعه له مذ ان شرع بها بخصوص دفعها الى مركز بحث وتطوير في احدى جامعات بغداد العريقة ؛من اجل تقويمها وبيان امكانية الاستفادة من مضامينها وما اقترحه من اليات.

بعد نيف وثلاثين يوما من تاريخ هذه المحادثة ،استيقظ سليم قبيل انتصاف الليل على صوت جرس الهاتف  ،ليجد في الجانب الاخر صديقه مصطفى مؤكدا له ترتيب لقائه بإدارة المركز البحثي في صبيحة اليوم التالي لأجل التداول معه حول اهداف الدراسة ومحاورها الرئيسة .

وعلى الرغم من السعادة التي غمرته وهو يستمع الى محدثه عبر الهاتف ،فثمة هاجس غريب رادوه وهو يشكر رفيق دربه قبيل اغلاق هاتفه بيد مرتجفة تهتز كسعفة تقاوم الريح بخجل :

يا لسوء حظي .. يا لسوء حظي !

 قالهما بألم ،وهو يسبح في فضاء نشوته المفترضة..

واردف متسائلا وهو لما يزل على سريره المتهالك :

لماذا اللقاء ..؟

الا يمكنهم ارسال نتيجة الفحص والتقويم من دون حضوري ؟

هل سأكون محل ترحاب من قبلهم ،ام سيعمدون الى احراجي ؟ !

وفي دوامة هذه الهواجس التي تزامنت مع عتمة ظلام حجرته ،نهض سليم  من سريره ،وبمساعدة ضوء جواله الخافت ،اشعل بولاعته ما تبقى من شمعة صغيرة لإنارة صومعته المليئة بالمستعمل من الكتب وما جمعه من الورق العتيق ،وتمتم قائلا :

سحقا لهذه المكالمة اللعينة التي جعلتني متخما بأعباء اسئلة لم تواجهني منذ ايام اشتراكي في اخر امتحان فاشل للبكالوريا !!

وما ان تحرك خطوات عدة ،حتى وجد نفسه بمواجهة المرآة الكبيرة التي سبق ان قطع اوصالها في نوبة ياس بلكمة عنيفة ادمت يده ، وجعلتها تظهر من يقف امامها بأكثر من صورة  ..

طال وقوفه امام المرآة ،وتمعن في قسمات وجهه حتى اصبح يسال ذاته :

 ولماذا الخوف ايها المولود في ثنايا المحن ما دمت واثقا من صحة ما انجزته ، الم تكن انت من تمنى ان تعرض دراسته على هذا المركز البحثي او غيره ؟

هل داهمك زهايمر ثقافي ،منعك من  القدرة على الخوض في تفاصيل دراسة انت اعددتها وحفظت حتى مواقع هوامشها  ..؟

تدرك انت قبل غيرك ،انها مفارقة تستوجب وقفة شجاعة !

لتذهب غدا الى المركز ،وليكن ما يكن !!

لم تغمض عينا سليم ،ولم يخلد الى النوم طيلة هذه الليلة التاريخية التي قضاها يتقلب يمينا ويسارا يفكر باحتمالات فشل او نجاح مهمته وسط ضوضاء صرير سريره المتهالك ،ما جعله يقدم في سويعات الفجر الاولى على الفرار من سريره وافتراش ارضية حجرته الرطبة بعد ان جهز له فراشا وثيرا من كارتون ورقي افرغه من اعز كتبه وقواميسه التي كان يحتويها منذ سنوات دراسته الثانوية التي لم يوفق في اجتياز اخر مراحلها جراء انشغاله في البحث عن فرص عمل بـ ( مساطر العمالة ) التي رمت به منكسر الامل على باب تجنيد منطقته تمهيدا لسوقه الى مطحنة الحرب .ولم يشعر صاحبنا بتغيير يفضي الى جعل  مكان منامه الجديد افضل من سريره سوى اضمحلال صريره الذي لم يكن فاعلا في مساعدته بإغماض عينيه طوال  تلك الليلة .

ترك فراشه الورقي  مبكرا ،وتناول فطوره على عجل قبل ان يخرج مسرعا الى مكوى يديره قريب له ،لا يبعد كثيرا من منزله ؛بقصد استعارة بدلة تليق بمقام مضيفه ،فكان له ما اراد . وبغية الافادة من الوقت عمد سليم الى تغيير ملابسه في محل قريبه ،ولم يكلف نفسه العودة الى المنزل .

حين التقى سليم ادارة المركز ،انفرجت اساريره عندما كان ينصت بانتباه شديد الى مدير المركز وهو يقول :  لا أريد أن أطري بحثك ،فحسبي شهادة من أطلع عليه من أصحاب الشأن والاختصاص ، إذ أثنوا على موضوعية القضايا التي عنيت بها هذه الدراسة وعلى منهجها الرصين ودقتها الأكاديمية والعلمية ، ما يجعلها جديرة بالاهتمام والمتابعة ،ومن صميم قلبي اهنئك على النتائج الباهرة التي حققتها في دراستك ،وتأكد ان امكانياتنا المادية لا تسمح بإقامة ندوة او ورشة عمل او طاولة مستديرة  للتثقيف بمضامينها ،وربما اقمنا بعد عامين مؤتمرا علميا يمكنك المشاركة في فعالياته بهذه الدراسة .

وحينئذ لم يتبقى من هموم سليم عبود سوى ان يمن عليه الله بمن يسهم في ايداعها الى احدى الجهات الحكومية المعنية بمشكلة بحثها ؛ للإفادة من نتائجها وتوصياتها التي تعالج إحدى ابرز مشكلات البيئة العراقية المعاصرة . وكان له ما اراد ،حيث نجح بتقديمها      فيما تأخر من عام 2005م برفقة طلب رسمي إلى اعلى الحلقات في السلطة التنفيذية بوساطة أحد المسؤولين الذي أبدى حماسته لتبني إيصالها .

      وبينما كان سليم عبود يتطلع بظمأ دائم إلى أن تهتم تلك الجهة بالدراسة وتأخذ بما يسعها الأخذ به من آراء وتوصيات . إذ انكمشت الدراسة داخل نفسها كدودة عمياء، بعد أن ظلت تقبع سجينة في أدراج المكاتب ، فطفق يبحث عنها بغية استعادتها لإمكان التصرف بها في الوقت المناسب .بيد أنه لم ينل غير الخيبة التي زادت من إحساسه بالألم الممض الذي قد يسهم في استحضار عوامل التأسيس لتذويب دراسته وتضييع جهوده .

 

وبعد ان مرت اعوام من دون نتيجة تحقق مبتغاه  ،كتب الى مصطفى في ليلة موحشة من شتاء عام 2013 وهو يرقب باهتمام منظر المطر الغزيرعبر نافذة الحجرة : (صديقي الغالي ان ضياع الدراسة مهما كانت أسبابه يصدق كل الهواجس التي أنذرتني بضياع آمالي، وآمال كل من عنوا بها ورأوا فيها استنهاضاً لهمة القيادات الإدارية وإيقاظاً لها لتشعر بالمشكلات التي نبهّت عليها ،وربما كان سبب ضياعها يعود الى ان كاتبها ينتمي الى شريحة جرحت كبرياءها مظاهر البؤس والحرمان .وعلى الرغم من هذا المأزق ولأجل ان لا يتخاذل القلم ويصبح قربانا لانوية البشر وسذاجته ،فثمة ما يدعوني إلى تحمل أعباء الإحساس بالخيبة خشية الانزلاق في هاوية العقم الثقافي الذي قد يحكم به ما احتشد حولي من اجتهادات ورؤى متباينة كثر ما تقود نحو فراق الاهتمامات البحثية فراق آدم جنته. عزيزي مصطفى :ان أهمية هذه الدراسة وإحاطتها الواعية بما يكابده انساننا المبتلى بالهموم تغريني بمحاولة إذكاء جذوة التطلع لأيقاظ صوت المحرومين بإعادة وتحديث عرض ومعالجة موضوعاتها بالوسائل الثقافية المتاحة .تأكد ايها الصديق الاعز أن هذا الانعطاف يستمد مسوغاته من اعتقادي بأن هذا التوجه أجدى من فلسفة التخندق في أقبية الضعف والتردد التي ربما يتشبث بها من يطغي عليه إحساس من انتهى إلى طريق مسدود ، فضلاً عن اسهام هذا  التوجه الجديد بتمكيني من تحقيق جزء من مسؤولياتي الأخلاقية والإنسانية والمهنية تجاه ما يعانيه شعبي من مشكلات في بلد أثقلته الجراح ،على الرغم من أصالته وتعدد ثرواته وغزارتها ) .

ومن لحظتها عاد سليم الى البحث والكتابة التي طالما سعد بمشقتها ،ولتهيئة مراجع بحثه الجديد وما يحتاجه من مصادر ،استثمر اجازة نهاية الاسبوع واصطحب صديقه مصطفى الى احدى المكتبات في شارع المتنبي مستغلا علاقته الوطيدة مع صاحب المكتبة ،وبينما كان مصطفى مشغولا بمعاونته في مهمة البحث عن المصادر شاهد عنوانا غريبا فرض عليه مناداته بصوت جهوري تنبه له جميع الموجودين في المكتبة:

 سليم .. سليم.. تعال وانظر.. هذه الكارثة !

 ما الخطب يا صديقي ؟ ..قالها سليم وتوجه مسرعا صوب مصطفى الذي لم يكلف نفسه الكلام ،حيث سلمه رسالة الماجستير التي كان يطالعها واصبعه يشير الى العنوان .

فوجئ سليم مثل صاحبه بالعنوان الذي كلفه اختياره لدراسته قبل سنوات اياما وليال طويلة .ولم يفقده هول الصدمة وعنفها الشعور بضرورة التيقن اكثر بحقيقة ما يؤمن باستحالة حدوثه ،وحينئذ بدا بتصفح الرسالة المطبوعة بشكل انيق يعكس مقام صاحبها ،فلم يجد شيئا قد تغير من دراسته غير اسم الكاتب .