دائماً يُقال في عرفنا العراقي أنْ لا بديل ناضج في المرحلة الحالية قادر على قيادة صوت الرفض المتزايد في البلد. سأفترض حسن النيّة في هذه الشكوى. فهو اشكال حقيقي، وحتى تكون المعارضة مؤثرة وضاغطة باتجاه تغيير الواقع البائس الذي يلف العراق برمّته، لابد لها من شيئين، رأس يُدبِّب مساحة الضغط وقاعدة تملئ تلك المساحة زخمها وحيويّتها، اذ لا معارضة ناجحة دون رأس ولا رأس دون قاعدة شعبية عريضة. الاثنان يكمّلان بعضهما. ربما لا نملكهما الآن فعلاً، لكننا نمتلكهما قوةً.
القول بعدم وجود بديل ناضج يثق به جمهور العراق هو اسقاط نفسي لرغبة عدم التغيير التي يتبنّاها قائل هذا الكلام، وليس بسبب اليأس من عدم وجود قيادة بديلة. بعبارة اخرى، قائل هذا الكلام لا يريد التغيير لاسباب لسنا بصددها هنا، لكنه يحاول عبثاً ايهام الآخرين بأنه مع التغيير لولا ان العقبة تقع في عدم وجود بديل.
قراءة بسيطة لجدلية الرأس والقاعدة سنجد ان البديل هو نتاج طبيعي تفرزه دائرة الضغط الشعبية وليس العكس. لا نتوقع بديلاً يظهر للعلن وسط وجدان شعبي خامل لا يُشجّع. متى كان هناك ضغطاً شعبياً كان هناك قائداً من رحمها. هذا هو المنطق. فالمصريون لم يتمرّدوا على قيادتهم بتحفيز من "البديل الناضج". ابداً لم تكن هناك قيادة تدعو للتظاهر ضد الاخوان المسلمين، بل كان هناك ثلةً من الشباب اعلنوا تمرّدهم فالتحقت قيادات المعارضة بهم وليس العكس.
وحده الضغط الشعبي كفيل ببروز القادة. فصناعة البديل افضل من انتظاره، وكل المقومات والمواد الاولية جاهزة لصناعة بديل يقود اليأس ويحيي الامل من جديد. انها ديناميكية سياسية تجيدها ببراعة شعوب العالم الحرة حيث الضغط يبدأ من المنزل والمدرسة ودور العبادة والسوق، دون الحاجة حتى للنزول الى الشوارع والميادين، فتخلق حالة من الرعب والارتباك في الحكومة المتمادية.
انها سلطة اللاسلطة او قوة المستضعفين كما يسمّيها فيلسوف الجيك ورئيسها السابق فاكلاف هافل. ذلك المسرحي والفيلسوف السياسي الكبير الذي صنع اعظم معارضة لاعتى نظام دكتاتوري شيوعي في جيكوسلوفاكيا السابقة. برع في خلق جبهة داخلية قوية لنظام كان يفتش عن معارضيه في حقائب القطارات وصناديق الموت. كانت سلطة المستضعفين عنده اقوى من جبروت الشيوعية الحاكمة. لم يستخدم سلاحاً ابداً، بل نسج تلك السلطة "المستضعفة" من قصّات الشعر، من كلمات وتعابير معينة، من ملابس معينة، من انواع احذية محدّدة، من مسارح ومسرحيات خاصة، من موسيقى خاصة. كلها كانت ادواتاً ورموزاً سلمية نشرها لبيان مساحة المعارضة. جنّ جنون الشيوعيين وقتها وهم يمزّقون قمصان الشباب ذات الرسوم الرمزية المعارضة، يعتقلون سامعي تلك الموسيقى الممنوعة، يقصّون شعور هؤلاء الشباب دون جدوى، فمساحات المعارضة السلمية بدلالاتها ورسومها ورموزها تزداد في الجيك بشكل مذهل، حتى سقط النظام واستحق هافل لقب مهندس اسقاط الشيوعية من خلال ثورته المخملية تلك.
انا ارى وعياً عراقياً كاسحاً هذه الايام يسير بسرعة الريح نحو صناعة البديل واعادة تشكيل الهوية العراقية وفق ثوابت الوطن والوطنية. نعم، سريعة الى هذا الحد، انْ قارنّاها بالفترة التي اخذتها التحوّلات الراديكالية الكبيرة في اوروبا قبل وصولها هذا الازدهار والاستقرار الذي نشاهده اليوم. اعذروني فانا احب النظر لنصف الكأس المملوء دائماً.
بوادر هذا الوعي تشكّلت من حملات قوية مؤخراً مثل حملة قطع رواتب البرلمانيين وحملة منع اصحاب الجنسية المزدوجة من تسلّم مناصب مهمة في البلد وآخرها حملة "لا لحكم الاحزاب الاسلامية". هذه سلطة من لا سلطة له. فالتذمّر والاستياء وصل لذروته من الاداء السياسي الفاشل للنخبة الاسلامية الحاكمة، ومكبّرات الصوت عالية اليوم تطلب ابعاد الدين عن السياسة وحكم البلد مدنياً. هكذا صوت وهكذا حراك هو سلطة شعبية موازية لسلطة الحكومة تضغط بالاتجاه الصحيح وتخلق ارض خصبة لقيامة البديل.
فلا بديل ناضج قبل ان يطلب الناس ذلك اولاً.
وصفة وعي بجرعة عراقية، لا علاج لنا سواها.
|