دعبل الخزاعي علاقة متميزة مع عبد الله بن طاهر....كريم مرزه الاسدي

 

 

 

 

 

 

المقدمة : الشاعر وعلاقته النادرة بعبد الله بن طاهر :
لم يتورع شاعرنا من مدح بعض المخصوصين من أصدقائه المتنفذين الكبار المنعوتين بالجود والعطاء والسخاء والشجاعة والسماحة ، ولا تنسى في ذلك العصر ، كان يعتبر الأدب حرفة مميزة ، ونادرة ، تدرّ على صاحبها بالخير الوفير ، حتى أنَّ لباس الشعراء كان مميزاً لعلو شأنهم الاجتماعي ، والفكري ، والعقلي ، لذلك يقول خزاعينا " إنَّ الذي أدركتني حرفة الأدب " والحق ، لم يسجل لنا المؤرخون أنه مدح رجل دولة مرموقاً سوى عبد الله بن طاهر بن الحسين ، المؤسس الفعلي للدولة الطاهرية - من بعد - ، فالرجل فذ كأبيه طاهر ، وعلى ما يبدو لي ، كان بين الرجلين لقاء نفسي ودّي , وإن كان عجباً أنْ يخشى القائد الكبير من لسان الشاعر الشهير ، ربما لأنّ الأخير قد تألم جداً من تطاول الدعبل على أبيه ، وأخيراً وقع هو نفسه بين فيه ! وسأسير معك في هذه الفسحة الدعبلية بعد نبذة عن العائلة الطاهرية .
2 - العائلة الطاهرية ، ودولتهم الخمسينية :
تنسب هذه العائلة الشهيرة في العصر العباسي للقائد العسكري الفذ طاهر بن الحسين بن مصعب بن زريق الخزاعي بالولاء ، ولد الرجل سنة ( 159هـ / 776م ) ، وهو أحد أشهر قواد الخليفة العباسى المأمون ، وكان مشهوراً بذى اليمينين لقوة ذراعيه بالتساوي ، وأعور العين ، وقال فيه دعبل نفسه هاجياً ساخراً (الرجز) :
وذي يمنين ٍ وعين ٍواحدهْ *** نقصانُ عين ٍويمينٌ زائدهْ
نزرُ العطياتِ قليلُ الفائدهْ **** أعضهُ اللهُ ببظـــر الوالدهْ (154)
وقد جاء هذا السخر القاسي بعد أن زار الدعبل خراسان ،وكان يتولاها هذا الطاهر ، ولمّا ذهب الشاعر الشهير لمقابلة الأمير ، ماطله الأخير ، وأطال مقام الشاعرعند بابه ، فاعتبر الدعبل الأمر إهانة مقصودة ، فدّس إليه هذه الأبيات ، وخرج من ديوانه اعتزازاً بكرامته ، قائلاً (المتقارب) :
أيا ذا اليمينين والدعوتين ***ومن عنده العرف والنائلُ
أترضى لمثلى أنــى مقيمٌ ****** ببابك مطرحٌ خــــاملُ
رضيت من الود والعائدات **** ومن كل مـا أمل الآملُ
بتسليمة بين خمس وست ***إذا ضمك المجلس الحافلُ
وما كنت أرضى بذا من سو**اك أيرضى بذا رجل عاقلُ
وإن ناب شغل ففي دون ما ***** تدبّره شغلٌ شـــــاغل
عليك السلام فإني امرؤ ****** إذا ضـــاق بي بلد راحل
وكان هذا الطاهر بن الحسين قد ولاّه المأمون قيادة جيشه للزحف على بغداد أبان فترة الخلاف الحاد بين الأخوين منذ 197 هـ ، فحاصرها ، واستطاع بأربعة آلاف جندي فقط أن ينتصر على جيش الأمين بقيادة علي بن عيسى ، وتعداده عشرات الآلاف ، وقطع رأس القائد العيسى ، وخليفته الأمين سنه 198 هـ / 814 م ، وحمل رأسه إلى خراسان ، وسـّلم عرش الخلافة لسيده المأمون ، الذي رعاه لوفائه وخدمته ، ثم ولاّه خراسان سنه 205 هـ / 821 م ، فأعلن فيها الدولة الطاهرية ، وضُمت شرق تركستان إليها ، تحت رعاية الخلافة العباسية ، وفي هذه المرحلة زاره دعبل ، فعاتبه ، ثم! هجاه - كما ذكرنا - وتوفى الطاهر فيها سنة ( 207 هـ / 823 م) ، فخلفه ابنه طلحة بن طاهر حتى (213 هـ)، ثم عبد الله بن طاهر الممدوح المحظوظ حتى (230 هـ / 845 م) ، واتسعت الدولة فى عهده ، وكانت علاقته متميزة مع قصرالخلافة وعرشها ، وجاء ابنه طاهر الثانى من بعده حتى ( 248 هـ) ، فضعفت دولتهم الناشئة ، ثم خلفه محمد بن طاهر الماجن العابث ، وهو خاتمهم ( 259 هـ / 873 م ) ، حيث قضى عليها الصفاريون ، واستولوا على عاصمتهم نيسابور. (155) ، ودامت دولتهم اثنتين وخمسين سنة .
أمّا عبد الله بن طاهر ، أبو العباس - فقد ولد عام 182 هـ 798 م ،أصله من (باذغيس) بخراسان ، من أشهر ولاة بني العباس في عصرهم الأول ، إذ توّلى ولاية مصر والشام والجزيرة وأفريقية مرتين في عهد المأمون ، ومن ثم أصبح أميرالدولة الطاهرية في خراسان - كما أسلفنا - الموالية للعباسيين ، كان عادلاً ، جواداً ، أديباً ، شاعراً ، فلمّا هزم طائفة من مغاربة الأندلس عبثوا بالأسكندرية خراباّ ، وأجلاهم منها ، ورد إليه كتاب من المأمون يأمره بالزيادة في الجامع العتيق ، فضاعفه ، وردّ على المأمون شعراً من (الهزج) :
أخي أنت ومولاي *** ومن أشكر نعماه
فما أحببت من شيءٍ***فإني الدهر أهواه
وما تكرهُ من شيءٍ *** فإني لست أرضاه
لك الله على ذاكْ **** لــك الله لـــك الله (156)
3 - علاقة خاصة متميزة ونادرة بين الدعبل وعبد الله بن طاهر :
يذكر ابن تغري في (نجومه) : " أول ماقصد دعبل عبد اله بن طاهر أقام مئه ، لم يجتمع به ، وضاق ما بين يديه ، فكتب إليه " مخلع البسيط " :
جئتك مستشفعاً بلا سببِ ***** إليك إلا بحرمة الأدبِ
فاقض ِذمامي فأنني رجلٌ **غير ملح ٍعليك في الطلب ِ
فبعث إليه بعشرة آلاف درهم وكتب إليه : " الكامل "
أعجلتنا فأتاك عاجل برّنا **** ولو انتظرت كثيره لم يقللِ
فخذ القليل وكن كأنك لم تسلْ***ونكون نحن كأننا لم نفعلِ (157)
صاحب الأغاني يروي بسند : " فانتعل عبدالله ، ودخل إلى الحرم ، ووجه إليه بصرة فيها ألف درهم ، وكتب إليه ..." (158) الأبيات ، ويحدد مكان الحادثة ببغداد.
حنق دعبل على عبد الله لاستخفافه المشين ، واستصغاره المهين ، ومماطلته بالعطاء ، وهو به قمين ، وهذا الأمر من العادات المألوفة ، بل الواجبة في أيام ذلك العصر ، لذلك قذفه شاعرنا بأبيات أقرب للهجاء ، ولك أن تعتبرها عتاباً مريراً قاسياً ، عندما وعده مرّة أخرى بغلام ، وماطله , وينقل لنا ابن عبد ربّه في (عقده الفريد ) ، هذا الخبر الفريد : " ووعد عبد الله بن طاهر دعبلاً بغلام ، فلما طال عليه تصدى له يوماً ، وقد ركب إلى باب الخاصة ، فلما رآه قال : أسأت الافتضاء، وجهلت المأخذ ، ولم تحسن النظر، ونحن أولى بالفضل، فلك الغلام والدابة لما ننزل إن شاء الله تعالى. فأخذ دعبل بعنانه وأنشده :
يا جواد اللسان من غير فعلٍ *** ليت في راحتيك جود اللسان ِ
عين مهران قد لطمت مراراً **** فاتقي ذا الجلال في مهران ِ
عرت عيناً فدع لمهران عيناً *** لا تدعه يطوف فـي العميان ِ
قال : فنزل له عن دابته ، وأمر له بالغلام " !! (159) ، لا تقيس الحاضر بالغابر ، فما عليك إلا أنْ تقرأ ، وتتأمل تأمل الناظر العابر ! ، ونحن نواصل المسير مع الأندلسي ابن عبد ربّه ، إذ ينقل لنا مشهدين لِما دار بين الرجلين بمقطوعتين ، الأولى لا توجد في ديوان الشاعر على اختلاف محققيه ، إليكهما كما رواهما : " عرض دعبل بن علي الشاعر لعبد الله بن طاهر الخراساني، وهو راكب في حراقة له في دجلة، فأشار إليه برقعة ، فأمر بأخذها فإذا فيها :
عجبت لحراقة بن الحسين ***كيف تسير ولا تغرق
وبحران: من تحتها واحد***وآخر من فوقها مطبق
وأعجب من ذاك عيدانها ***إذا مسها كيف لا تورق
فأمر له بخمسة آلاف درهم وجارية وفرس .
وخرج عبد الله بن طاهر، فتلقاه دعبل برقعة فيها :
طلعت قناتك بالسعادة فوقها ****** معقودة بلواء ملك مقبلُ
تهتز فوق طريدتين كأنما ******تهفو يقص لها جناحا أجدلُ
ربح البخيل على احتيالٍ عرضه**بندى يديك ووجهك المتهللُ
لو كان يعلم أن نيلك عاجل ** ما فاض منه جدول فــي جدولُ
فأمر له بخمسة آلاف . " (160)
هذا الرجل الطاهري الكبير ، الذي وقع بين مديح دعبل وسخره ، وهجاء أبيه ، رحل إليه الشاعر الصديق ، وهو في خرسان ، فوجد الأمير الكبير أنَّ الرجل الشاعر مجدّ ٌ جريء ، لا يمكن تجاهل أمره ، وكسر شوكته ، واستصغار شأنه ، وقد تطاول على من هو أعلى منه شأناً ، فتلاقت النفسيتان عند نقطة تقاطع خطي الجود والكرم مع الشجاعة والجرأة ، والنفس للنفس أفهم ، أليس دعبل هو القائل بأسلوبه البلاغي الحكيم لشريكة حياته ، مستهجناً جمع المال ؟ !
قالتْ سلامة : أين المالُ ؟ قلتُ لها:*** المالُ ويحكِ لاقى الحمدَ فاصطحبا
الحمدُ فرّقَ مالي في الحقوق ، فما **** أبقين ذمّاً ، ولا أبقيــــن لي نشبا
4 - دعبل الوجه الآخر بين البحتري وابن الرومي و المتنبي :
فأخذ الطاهر يستميل الشاعر ، ويجزل العطاء له حتى الإشباع المتخم ، يروي ابن عساكر في (تاريخ دمشق ) عن أحمد بن أبي داود قائلاً : " خرج دعبل بن علي إلى خراسان فنادم عبد الله بن طاهر فأعجب به فكان في كل يوم ينادمه فيه يأمر له بعشرة آلاف درهم وكان ينادمه في الشهر خمسة عشر يوما ، وكان ابن طاهر يصله في كل شهر بمائة وخمسين ألف درهم ، فلما كثرت صلاته له توارى عنه دعبل يوم منادمته في بعض الخانات ، فطلبه فلم يقدر عليه ، فشق ذلك عليه ، فلما كان من الغد كتب :
هجرتك لم أهجرك من كفر نعمةٍ ***وهل ترتجا فيك الزيادة بالكفر ِ
ولكنـّني لما أتيتك زائراً **** فأفرطت في بري عجزت عن الشكر
فملآن لا آتيك إلا معذراً *** أزورك في الشهرين يوما وفي الشهر
فإن زدت في بري تزيدت جفوة ً*** ولم نلتقي حتى القيامة والحشر " (161)
هذا الموقف المشرف للنفس ، والمحترم للذات ، الذي يقفه الإنسان عندما يرى أنّ كرم الآخرين يتجاوز الحدود ليدخل ساحة الاستعباد والقيود ، يقول المتنبي(ت 354 هـ / 965 م) مخاطباً سيف دولته :
وقيدتُ نفسي في ذراك محبة ً *** ومن وجد الإحسان قيداً تقيّدا
هذه هي المعادلة التي يرفضها دعبل ، وينفر منها ، ولا يسعى إليها ، بينما البحتري ( ت 284 هـ /597 م)، وهو معاصر لدعبل وصديقه ، كان براغماتياً ، لا يبالي في سبيل تحقيق مصلحته أن يسلك أي طريق للوصول إليها ، فسعى للقصر الجعفري ، ووصل إليه سعياً إلى الرزق ، لا مشياً إلى الصدق ، وهو القائل : ( أعذب الشعر أكذبه !) ، فكان همّه أنْ يعطي الشعر ، شرطاً أن يجدي عليه المال ، إليك ما يقول :
سبيلي أن أعطي الذي تطلبونه ***وشرطي أن يجدي عليَّ و لا أجدي
صحبتُ أناساً أطلب المال عندهمْ **** فكيف يكون المال مطلباً عندي
لهذا يحلل نديم مرعشلي سلوك البحتري المادي في كتابه عن (البحتري) قائلاً عنه : " لعن الله الدرهم ، كم فرّق ما بين المرء وأخيه , والابن وأبيه ، وجعل من الأصدقاء أعداء ، ومن الأحبة خصوماً ألداء ، ويهتف الشاعر بلغة الذعر من حسد أخيه ، ومناصبته أسباب البغضاء :
وألبستني النعمى التي غيّرت أخي *** عليَّ ، فأمسى نازح الود أخيبا
ويتناهى انحداراً (يقصد البحتري) في هذا الدرك من المذلة والخضوع ، وصغر النفس حتى نلقيه أخيراً ، وقد صاغ لنفسه قيد عبوديته ، راضياً به سواراً ذهبياً يبتسب إليه دون سائر قومه من أبناء عشيرته :
وما أنا إلا عبد نعمتك التي *** نسبت إليها دون أهلي ومعشري " (162)
في البيت الأخير البحتري الطائي يخاطب المتوكل العباسي ، ونحن لا نزعم أنّ دعبلاً لم يتكسب بالشعر ، هذا كان ديدن شعراء ذلك العصر ، فالأدب كان حرفة ، والشعر وسيلة ، ولكن البحتري سعى وراء لذاته ، وقصره الجعفري ، ومكسبه المادي ، حتى أنه تقلب في ولائه للخلفاء المتعاقبين ، لا يتورع أنْ يهجو من مدحه من الخلفاء بعد زوال حكمه والمتنبي قيّد نفسه بإحسان سيف دولته , وتقلب في مديحه بين الحمداني العربي ، والأسود الأخشيدي ، والبويهي الفارسي ، أمّا دعبل ، فما كان هكذا ، إذ حدّد موقفه العقائدي الديني مديحه ، بل تمادى ليقلبه هجاء وسخرية ، وعندما يدخل مدخلاً يوازن بين مطلبه وكرامته ، معتبراً أنّ تكريم الشعراء واجب على رجال الدولة ، وأعيان المجتمع ووجوه ، اقرأ ما يخاطب به أحد الأمراء :
ماذا أقول إذا أتيتُ معاشري***صفراً يداي من الجواد المجزل ِ
إنْ قلتُ : أعطاني كذبتُ***وإنْ أقل :ضنَّ الأميرُ بمالهِ لم يجملِ
ولأنت أعلم بالمكارم والعلا *** من أن أقول فعلتَ مـــا لم تفعلِ
فاختر لنفسك ما أقول فأنني **** لابـدَّ معبرهم ، وإن لم أسـألِ !!(163)
علامتا التعجب مني ، للترغيب في طيّه الترهيب ، وهذا أحسن ما يقدّمه دعبلنا للإمراء والزعماء ، وإلا فلسانه سليط على هؤلاء ، وقلمه حاد لقطع دابر البخلاء ، ذات يوم أراد الخروج مبكرا من سرّمَن رأى (سامراء) ، ففاجأه عمير الكاتب ، يقول صاحب (الأغاني) : " كان عمير الكاتب أقبح الناس وجها، فلقي دعبلا يوما بكرة وقد خرج لحاجة له، فلما رآه دعبل تطير من لقائه، فقال فيه :
خرجت مبكرا من سر من را *** * أبادر حاجة فإذا عميرُ
فلم أثنِ العنان وقلت أمضي**فوجهك يا عميرُ خرى وخير ؟ (164)
وابن الرومي معاصر دعبل العجوز ، إذ أن الأخير أكبر من الرومي أكثر من سبعين سنة ، فتأثر كثيراً بمعاصره الكبير الكبير من حيث الهجاء المقذع , ولكن لمعاصريه العوام ، وإن أبعد للوزراء المطرودين , يعود ذلك لوسوسته ، وخوفه ، إذ لا يملك جرأة الدعبل وهيبته وحيلته و همته ، وموقفه ، ولم يكن بقية الشعراء بأحسن حال من ابن الرومي ، ومع ذلك ، فأن الأخير أيضاً كان يرى أنّ حق الشعر في الحكم واجب ، ولكن كلامه ، لا يأخذ ولا يعطي ، فلا رأي لمن لا يطاع ، اقر ما يقول ابن الرومي :
أذا ما مدحت المرء يوما ولم يثبْ***مديحي وحق الشعر في الحكم واجبُ
كفاني هجائيه قيامــي بمدحه *** ** خطيباً , وقول الناس لي أنت كاذبُ (165)
الشاعر في ذلك العصر لم يكن متميزاً في موهوبته وثقافته فقط ، بل كان وسيلة إعلام كبرى ، تحسب له الدولة , ومعها المجتمع ، ألف حساب , فيستطيع المرء أن يشير إليه من ملابسه المميزة ، وملاكوبه الباذخ ، وثرائه الفاحش ، إذا تمكن من فرض نفسه شاعراً مؤثرا ، أما ابن الرومي ، فكان له الله ، إذ يُسخر منه ، لضعف حيلته , والله فوق كل ذي علمٍ ٍ عليم .