الجزء الاول ... ذلك الزاحف من مكةَ برسالة الموت ، استطاع – في وكر الفتنة – ان يحقق ما اشتهت احلامه السوداء ان يكون ! بمسارب الكوفة المظلمة ، ومغاور الدسيسة، جدد الصحبة مع نفر ذوي صلابة ومراس ، من الأَولى على نفس مذهبه، يكنون لعلي بن ابي طالب عداوة حمقاء مريرة ، ويرنو املهم المجنون الى هدم حياته ، وتقويض عهده لنشر دعوتهم الوبيئة ... وبين فلول الموتورين والمخدوعين ، وقع على بضعة غالية في عصبية التفكير ، انس منها الى اثنين مفتونين ، عاقداه على النصرة واسترخاص الحياة ، من اجل اراقة الدم المستباح .. وبديار تيم الرباب ، لقي من يؤجج شرَّهُ ويلهب ثاره وينفخ في ناره ويحفز نفسه المفعمة بالضغينة الملتاثة بالهوى ، حفزا شرهاً لا تهدا له نهمة ولا تبرد له غلة ولا يتراخى له تصميم ... وفي حي كندة ، فوق كل اولئك ، قابل الرئيس الذي يحمي او يثير اويشير ... لكن القدر الموكل بالقلوب اوشك في لقاء من تلكم اللقاءات ان يمد اصبعا الى قلب للتامر تلعب بوتر فيه فتقلب – لحين من الزمن – تفكيره ، وتعدل تدبيره حتى لكادت ان تدفع بخطاه بعيدا بعيدا عن المرمى الذي بيت النية على بلوغه بعداً شاسعا همَّ ان يتحول بتيار التاريخ ... ولم يكن في حسبان عبد الرحمن يوم بدا رحلته الطويلة . ولا جال له في بال وهو يرتاد المسارب والمغاور والاوكار انتجاعا للعون او الرفقة او النصيحة. ولا سرح ظنه لحظة قط الى قوة في الوجود – من شيء او امر ، من ناس او حدث ، من اعداد فعل مدبر او من صنع صدفة عارضة – تستطيع ان تعترض سبيله المرسوم او تحرف خطاه عن السير عليه ... غير ان القلوب قُـلّب . والهوى جموح . والعواطف رعناء .... وقريب الى سجية البشر - لا ريب - بل بضعة منها ، ان يعرف المرء الحب ويذوق طعمه فينعم به او يشقى فيه . وقريب ايضا – حين تلمسه عصاه السحرية – ان ينسى نفسه وينسى عقله وينسى ماضيه او يكاد يذهل آونة عنه تطول او تقصر كعمر نشوته ، ليتبدل على الاثر قلبا بقلب وشعورا بشعور ... ولا غرو ! ... فحين تلتفت القلوب تغمض العيون . وحين يامر الهوى تلبي الجوارح وحين تجيش الاحاسيس تاسن العقول .. فتلك سنة الطبيعة في الناس ، وضريبتها المفروضة عليهم لحفظ البشرية .. وكان من قدر ابن ملجم ان عرف الحب ذات ليلة ساجية بالكوفة ، من ليالي الفرار والطراد والتسلل المسترة بالغموض ، المائجة بالهمس ، المليئة بالاسرار ... فاذا هو اذ ذاك يبدأ رحلة جديدة ... يميل عن طريق التفكير الحذر الى طريق العاطفة المفتونة ... يمر بالتجربة الانسانية العذبة ، المتواترة في حياة الانسان كانفاسه المتكررة عبر الايام في كل مكان .. باللمسة الساحرة ، غدا المتآمر المغامر غير ما كان : انسانا سوى انسان ، وكيانا سوى كيان ! لكانه خلص من كثافة البدن ومن عتمة المادة ! لكانه ابن لحظته الحلوة التي اغرقته في النشوة .. لكانه ولد من جديد ... في عين من سوادها الداكن ليل الليل ، ومن بياضها الصافي صباح الصبح ، عاين الفتى قدره . وجد دنياه . عاش فترة وجيزة من حياته شهية ندية هي الحياة ، او هي حياة غيرها اخرى ، مفصولة تماما عن هذه الحياة . لا تكاد تعي المالوف في وجوده الاول ووجود الناس من شكول واوضاع ، ومن نظرات وافكار ، ومن ظنون واحداس ، ومن سنين ولحظات ، ومن اغوار وابعاد لانها لا تخضع لراي الاعين ، ولا لمنطق العقول ولا لحكم الاحياز .. ولا تفطن لما يدور في ذلك العالم الذي كان يجنه ويحتويه : عالم القلق والحذر ، والخوف والخطر ، والدس والظلام .. لا تُحسب من سني عمره ، لانها وحدها العمر والدهر والخلود .....
يتبع.... |