فقه الاخلاق... الشهيد السعيد محمد الصدر: كتاب الصوم (٢)

 

 

 

 

 

 

 

 الفقرة (2)

 في معنى الإفطار والمفطرات
 
يحتوي الإفطار على معنى قطع الصوم، بأيِّ معنىً أخذناه، وبأيِّ رمزٍ رمزناه. وذلك لوضوح أنَّ الصوم هو الإمساك عن المفطرات، فإذا حصل الإفطار انقطع الإمساك، وإذا انقطع الإمساك انقطع الصوم، لأنَّ الجزء الأساسيَّ من حقيقته يكون قد انتفى، وقد عرفنا أنَّ حقيقته مركَّبةٌ من الإمساك والنية. 
فإذا كان الصوم، كما هو كذلك في الفقه، هو الإمساك عن المفطرات المشروحة هناك، كالطعام والشراب والنكاح، كان ممارسة شيءٍ منها عمداً مزيلاً للصوم. فإن كان واجباً فقد عصى الواجب، وإن كان مستحباً فقد فوَّت المستحبّ. 
وإن أخذنا الصوم بمعنى الإمساك أو الإعراض عن لذائذ الدنيا المحرمة، كان معنى الإفطار ممارسة شيءٍ من ذلك، وهو إفطارٌ محرمٌ بطبيعة الحال، لأنه إفطارٌ على محرَّم. 
وإن أخذنا الصوم بمعنى الإمساك أو الإعراض عن لذائذ الدنيا عموماً، أو إسقاط أهميتها عن نظر الإعتبار كان معنى الإفطار ممارسة بعض تلك اللذائذ. 
والحكم فيه أنه ليس محرماً من الناحية الفقهية بطبيعة الحال، لأنَّ ترك اللذائذ عموماً غير واجب.
نعم، يكون هذا الإفطار مفوتاً للغرض الذي من أجله التزم الفرد بترك اللذائذ وأعرض عن حبِّ الدنيا. وهو قد يكون غرضاً أو هدفاً شريفاً مهماً، يفوت نيله بهذا الإفطار، كما قد يتأخر الوصول إليه في كثيرٍ من الأحيان.
ولعلك يخطر في ذهنك قوله تعالى: [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ][[511]]. وإنَّ هذه الآية الكريمة بمنزلة عرض اللذائذ غير المحرمة على المؤمنين, وإنها تعطيهم الضوء الأخضر، من جهة تناولها واستخدامها.
فإذا أضفنا إلى ذلك: أنَّ الطعام والشراب ونحوه مما يقوّي الجسم، فيكون معيناً على طاعة الله سبحانه، فلماذا يكون هذا المؤلف الحقير داعياً إلى الزهد والإنصراف عن اللذائذ، وعن الحياة الإجتماعية الإعتيادية؟!.
 
غير أنه يمكن الجواب على مثل هذا السؤال على عدة مستويات:
المستوى الأول: إنَّ ما قاله السائل صحيحٌ مئة بالمئة على مستوى ظاهر الشريعة، من تربية الأكثرية الكاثرة في المجتمع ممن يقتصر على واقعه الإيمانيّ، ولا يريد الزيادة. 
المستوى الثاني: إنَّ الخطوة الجديدة نحو الزيادة لا تتضمن بحالٍ حرمة الإلتزام أو التناول من اللذائذ, ولذا يبقى قوله تعالى: ]قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ[ ساري المفعول. كلُّ ما في الموضوع: أنَّ الزيادات الإيمانية لا يمكن أن تستهدف بغير تضحيةٍ وتنازلات. وقد قال الشاعر: 
ومن طلب العلى من غير جدٍّ          أضاع العمر في طلب المحالِ
ومن الواضح للجميع: أنَّ الزهد هو الخطوة الأولى لتلك الأهداف لا محيص عنه ولا مجال لغيره. نعم، هو ليس هدفاً نهائياً، بل مقدمةٌ مؤقتةٌ لنيل ما بعده. وقد ورد في الدعاء: [اللهمَّ أخرج حبَّ الدنيا من قلوبنا][[512]]. وورد: [اللهمَّ لا تجعل الدنيا غاية همِّنا, ولا مبلغ علمنا][[513]].
المستوى الثالث: إنَّ هذا الزهد لا يعني غالباً, البعدَ عن المجتمع، والإنصراف عن الإختلاط بالناس، وإن كان ذلك قد يحدث أحياناً، وبصورةٍ مؤقتةٍ لبعض الأشخاص. 
غير أنَّ الصحيح هو أنَّ الطعام والشراب من ناحية, واللباس والسكن من ناحيةٍ ثانية، والإختلاط بالمجتمع من ناحيةٍ ثالثة، كل منها لها أحكامها وترتيبها في الشريعة، ولا يمكن خلط بعضها في بعض, وتحميل حكم بعضها على بعض. فإذا حكمنا مثلا برجحان الزهد في المطعم والملبس لايعني الزهد من ناحية العلاقات الإجتماعية. 
المستوى الرابع: إنه يمكن أن نقدم للآية الكريمة خطواتٍ من الفهم بحيث لا يكون مؤداها بعيداً عن المفهوم العامّ. 
الخطوة الأولى: إنَّ قوله تعالى: [مَنْ حَرَّمَ] استفهامٌ استنكاريٌّ يفيد النفي، وقد يراد به أنه لا أحد غير الله حرمها، إذ ليس لأحدٍ حقُّ التشريع سواه. 
الخطوة الثانية: إنَّ قوله تعالى: [زِينَةَ اللَّهِ] لا يراد به الطعام والشراب، بل ولا اللباس والعطور، وإنما يراد به أمورٌ معنويةٌ بعضها ظاهرٌ كمنظر الوقار والرشد، أو بهاء الوجه، وبعضها نفسيٌّ أو قلبيٌّ لا يراه العامَّة. 
الخطوة الثالثة: إنَّ قوله تعالى: [الطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ]. لا يراد بها الطيب أو اللذة الدنيوية في النظر أو الشمِّ أو الذوق, لأنَّ كلَّ الطيبات الدنيوية لا شكَّ أنها منوطةٌ ومخلوطةٌ بالكدر والنقصان والمصاعب، وإنما الطيبات الحقيقية هي الطيبات المعنوية النورية التي لا كدر فيها ولا ظلام, فتلك هي الطيبات من الرزق التي أعطاها الكريم سبحانه إلى عباده المؤمنين، بنصِّ الآية الكريمة. 
الخطوة الرابعة: إنَّ قوله تعالى: [خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ]. يعطينا فهماً على أنَّ هذه الطيبات المشار إليها في الآية ليست خالصةً في الحياة الدنيا، وإنما هي مشوبةٌ.
 وهذا له عدة تفاسير منها: 
أولاً: إنَّ المراد بالطيبات: اللذائذ الدنيوية، لأنها هي المشوبة كما قلنا دون المعنوية. 
ثانياً: إنَّ المراد بالخلوص في قوله: )خَالِصَةً( ليس هو [التكامل] بل هو [التمحض]. بمعنى أنَّ هذه الطيبات في الحياة الدنيا ليست متمحضةً للمؤمنين، بل هي مشتركةٌ بينهم وبين غيرهم من الكفار، في حين ستكون في يوم القيامة متمحضةً لهم. 
ثالثاً: إنَّ المراد بالطيبات ـ كما سبق ـ: الجانب المعنويّ منها, وهي تصل إلى المؤمن في الدنيا، ولكنها لا تصل وصولاً كاملاً ومستمراً، بل يكون مشوباً بالإلتفات إلى الدنيا والغفلة عن الآخرة أحياناً أو في كثيرٍ من الأحيان.
ومقتضى سياق كلامنا هو اختيار هذا الفهم الثالث، وهو إنما يتعين بالقرائن التي نستطيع إقامتها في الخطوات السابقة أو اللاحقة لهذه الخطوة، وحسبنا هنا أننا أشرنا إلى إمكان فهمه، وإن كان الوجدان  الإيمانيُّ للفرد يحكم بصحته دون ما سواه، بغضِّ النظر عن أيِّ شيءٍ آخر.
الخطوة الخامسة: إنَّ قوله تعالى: [خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ] يثير التساؤل عما يكون هو الخالص يومئذ، هل هو طيبات الدنيا، أو اللذائذ المادية, أو هو الطيبات المعنوية؟.
وهنا لا يحتمل أن يراد بها الطيبات المادية, لأنها جزماً لا تكون متوفرةً في يوم القيامة. فإن كانت تتوفر ففي الجنة للمؤمنين، لا في يوم القيامة، كما تنصُّ الآية الكريمة. ولا نستطيع أن نفهم من يوم القيامة دخول الجنة, لأنه خلاف الظاهر جزماً، فيتعين أن يراد بها الطيبات المعنوية.
وقد يخطر في البال: إننا لا بدَّ أن نفهم من يوم القيامة في الآية دخول الجنة، لأنَّ ذلك هو الظرف المناسب لأن يكون أيُّ نوعٍ من الطيبات خالصاً للمؤمنين. وأما في يوم القيامة، فيكون الناس مشغولين بالكتاب والحساب والعذاب، فكيف ستكون الطيبات خالصةً لهم يومئذ؟!.
وإذا فهمنا من يوم القيامة دخول الجنة أمكن أن نفهم من اللذائذ نوعها المادِّيّ. 
وجواب ذلك: إنَّ انشغال الناس يوم القيامة، لا يكفي قرينةً على أن نفهم منه دخول الجنة، لوضوح أنه ليس كلُّ الناس منشغلين بذلك المعنى. نعم، يكون المنشغل خالياً من الطيبات بأيِّ معنىً كان. ولكنَّ عدداً لا يستهان به سيكون ناجياً من ذلك، وهم الذين يحاسبون حساباً يسيراً أو لا يحاسبون على الإطلاق، أو تنالهم الرحمة أو الشفاعة بسرعةٍ ونحو ذلك, كل حسب استحقاقه. وهؤلاء هم المؤمنون المشار إليهم في الآية الكريمة, وهم لن يكونوا منشغلين عن تلقي الطيبات، مهما كان نوعها. فإذا علمنا ـ كما علمنا فيما سبق ـ أنَّ الطيبات المادية غير موجودةٍ يوم القيامة جزماً, إذن يتعين أن يراد بها الطيبات المعنوية بطبيعة الحال. ويكفي في ذلك ما أشرنا إليه من زوال الحساب أو كونه يسيراً, أو تلقي العفو والغفران, أو الشفاعة, أو إعطاء المزيد من الثواب أكثر من الإستحقاق, وغير ذلك من الأمور.