تجربة الإمام علي بن أبي طالب (ع) في إصلاح الدولة والمجتمع

 

 

 

 

 

 

استلم الإمام علي ( عليه السلام ) الخلافة بعد مقتل عثمان بسبعة أيام ، ذلك في ( 25 ) ذي الحجّة عام ( 35 هـ ( ، فوجد الأوضاع متردّية بشكل عام ، وعلى أثر ذلك وضع خطّة إصلاحية شاملة ، ركّز فيها على شؤون الإدارة  والاقتصاد والحكم، فقدّمَ إصلاحاتٍ شاملة ً للدولةِ الإسلامية الجديدة ، أهمها مايلي :
1 . تطهير الدولة :
أول عمل قام به عزل ولاة الخليفة السابق عثمان بن عفان .. بما فيهم والي الشام معاوية بن سفيان ـ رأس البلاء في الإسلام ـ وأستبدلهم بآخرين ،وهنا بدأت معركته المعلنة مع معاوية ـ الوالي الخبيث المتستر خلف كواليس خلافة عثمان الأموي ـ
حتى قال علي (ع) : قد جعل الله سبحانه لي عليكم حقاً بولاية أمركم ، ولكم عليَّ من الحق مثل الذي عليكم..
جعل سبحانه من حقوقه حقوقاً ، افترضها لبعض الناس على بعض ، فجعلها تتكافأ في وجوهها..
وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق : حقّ الوالي على الرعية ، وحقُ الرعية على الوالي ، فريضةٌ فرضها الله سبحانه لكلٍّ على كلٍّ ، فجعلها نظاماً لأُلفتهم ، وعزّاً لدينهم، فليست تصلح الرعية إلاّ بصلاح الولاة ، ولا تصلح الولاة إلاّ باستقامة الرعية ، فإذا أدّت الرعية إلى الوالي حقه ، وأدّى الوالي إليها حقّها ، عزّ الحقّ بينهم ، وقامت مناهج الدين ، واعتدلت معالم العدل ، وجرت على إذلالها السنن ، فصلُح بذلك الزمان ، وطمع في بقاء الدولة ، ويئست مطامع الأعداء...وإذا غلبت الرعية واليها ، وأجحف الوالي برعيته ، اختلفت هنالك الكلمة ، وظهرت معالم الجور وكثُر الأدغال في الدين ، وتُركتْ محاجُّ السنن ، فعمل بالهوى وعطّلت الأحكام وكثرت علل النفوس ، فلا يستوحَش لعظيم حقٍّ عُطِّل ، ولا لعظيم باطلٍ فُعل ، فهنالك تذلّ الأبرار ، وتعِزُّ الأشرار.فعليكم بالتناصح في ذلك ، وحسن التعاون عليه ، فليس أحد ـ وإن أشتدّ على رضى الله حرصه ، وطال في العمل اجتهاده ـ ببالغ حقيقة ما الله أهلّه من الطاعة.. وليس امرؤ ـ وإن عظمت في الحق منزلته ، وتقدّمت في الدين فضيلته ـ بفوق أن يعان على ما حمّله الله من حقّه ، ولا امرؤٌ ـ وإن صغّرته النفوس واقتحمته العيون ـ بدون أن يعين على ذلك أو يعان عليه .

2. تأميم الأموال المختلسة :
فبادرت السلطة التنفيذية بوضع اليد على القطائع التي أقطعها عثمان لذوي قُرباه ، والأموال التي استأثر بها عثمان ، وقد صودِرت أمواله حتى سيفه ودرعه ، وأضافها الإمام ( عليه السلام ) إلى بيت المال .
وقال عليه السلام :  أتأمرونِّي أن أطلب النصر بالجور فيمن وُليِّتُ عليه! والله لا أطور به ما سَمَرَ سَميرٌ ، وما أمَّ نجمٌ في السماء نجماً! لو كان المال لي لسوِّيت بينهم ، فكيف وإنَّما المال مال الله ؟!
3. تأديبه لباطل قريش :
وهو القائل : (( مَالي وَلِقُريش ، لقد قتلتُهم كافرين ، ولأقتلنَّهم مَفتونين ، والله لأبقرنَّ الباطل حتى يظهر الحقّ من خَاصِرَتِه ، فَقُلْ لقريش فَلتضجّ ضَجيجَها.((
4. إصلاح السياسة المالية للدولة :
المساواة في التوزيع والعطاء ، فليس لأحد على أحد فضل أو امتياز ، وإنّما الجميع على حدٍّ سواء . فلا فضل للمهاجرين على الأنصار ، ولا لأسرة النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) وأزواجه على غيرهم ، ولا للعربي على غيره . وقد أثارت هذه العدالة في التوزيع غضب الرأسماليين من القرشيين وغيرهم ، فأعلنوا سخطهم على الإمام ( عليه السلام ) . 
حيث أعلن المساواة في التوزيع والعطاء ، فليس لأحد على أحد فضل أو امتياز ، وإنّما الجميع على حدٍّ سواء . فلا فضل للمهاجرين على الأنصار ، ولا لأسرة النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) وأزواجه على غيرهم ، ولا للعربي على غيره . وقد أثارت هذه العدالة في التوزيع غضب الرأسماليين من القرشيين وغيرهم ، فأعلنوا سخطهم على الإمام ( عليه السلام ) .
فقال عليه أفضل الصلاة والسلام : أن لا يقولنَّ رجال منكم غداً قد غمرتهم الدنيا ، فاتَّخذوا العقار وفجَّروا الأنهار وركبوا الخيول الفارعة ، واتَّخذوا الوصائف الروقة ، فصار ذلك عليهم عاراً وشناراً ، إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه ، وأصرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون ، فينتقمون ذلك ويستنكرون ، ويقولون : حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا!
5. تربية المجتمع الإسلامي : 
لم يعهد عن أحد من الخلفاء أنّه عنى بالناحية التربوية أو بشؤون التعليم كالإمام ( عليه السلام ) ، وإنّما عنوا بالشؤون العسكرية ، وعمليات الحروب ، وتوسيع رقعة الدولة الإسلامية ، وبسط نفوذها على أنحاء العالم . وقد أولى أمير المؤمنين (ع) المزيد من اهتمامه بهذه الناحية ، فاتخذ جامع الكوفة معهداً يلقي فيه محاضراته الدينية والتوجيهية . وكان عليه السلام يشغل أكثر أوقاته بالدعوة إلى الله ، وإظهار فلسفة التوحيد ، وبَثّ الآداب والأخلاق الإسلامية مستهدفا من ذلك نشر الوعي الديني ، وخلق جيل يؤمن بالله إيمانا عقائدياً لا تقليدياً . 
 بعد مقتل الخليفة عُثمان ، ولم يكن ثمة فرصة لتعيين من يقوم بعده بالخلافة ، فلا سقيفة ولا شورى! فكان من حقِّ الجماهير ، ولأوَّل مرَّة في تأريخها ، أن تطلق صوتها وترجع إلى رشدها.فنهضت الجماهير عطشى تتسابق سباق الإبل إلى الماء ، جاءوا دار الإمام عليٍّ عليه السلام حيث اعتزل قبل هلاك عُثمان ، ولم يخرج من بيته ، يطالبون أن يخرج إليهم ليبايعوه..حتى وصف أمير المؤمنين عليه السلام هذا السيل العارم وإصرارهم على البيعة بقوله : فما راعني من الناس إلا وهم رسلٌ إلي كعُرف الضبع ، يسألونني أن أُبايعهم ،و أنثالوا عليَّ حتى لقد وُطئ الحسنان ، وشُقَّ عطفاي.ومضى يصف في خطبته هذه موقفه من الخلافة : أما والذي فلق الحبَّة وبرأ النسمة ، لولا حضور الحاضر ولزوم الحجَّة بوجود الناصر ، وما أخذ الله على أولياء الأمر إلا يقرُّوا على كظَّة ظالم أو سغب مظلومٍ ، لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أوَّلها لألفوا دنياهم أزهد عندي من عفطة عنزٍ . وتمَّت بيعته في الخلافة في يوم الجمعة الخامس والعشرين من ذي الحجَّة عام 35هـ ، وقال عليه السلام يصف ذلك الأمر وبسطتهم يدي فكففتها ، ومددتموها فقبضتها ، ثُمَّ تداككتم عليَّ تداكَّ الإبل الهيم على حياضها يوم وردها ، حتى انقطعت النعل وسقط الرداء ووُطئ الضعيف. وعن أبي ثور ـ كما جاء في ( الإمامة والسياسة ) ـ أنَّه قال : لمَّا كانت البيعة بعد مصرع عثمان خرجت في اثر عليٍّ عليه السلام والناس حوله يبايعونه ، فدخل حائطاً من حيطان بني مازن ، فألجأوه إلى نخلة وحالوا بيني وبينه ، فنظرت إليهم وقد أخذت أيدي الناس ذراع الإمام ، تختلف أيديهم على يده ، ثُمَّ أقبلوا به إلى المسجد الشريف ، فكان أوَّل من صعد المنبر في المسجد طلحة وبايعه بيده ، وكانت أصابعه شلاء ، فتطيَّر منها عليٌّ عليه السلام وقال: ما أخلقها أن تنكث ، ثم بايعه الزبير وأصحاب النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وجميع من في المدينة من المسلمين . بهذه اللهفة تمَّت أوَّل بيعة على صعيد واسع ، وصعد الخليفة الحق بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنبر الشريف بقبول الناس ورضاهم ، لكنَّ الإمام عليَّاً عليه السلام لم يكن من أصحاب السلطة، فلم يقبل بالخلافة إلا بعد أن رأى أنْ لا مفرَّ من ذلك ، وأنَّ مصلحة الإسلام والمسلمين تقتضي أن يمدَّ يده لتختلف عليه أيدي الناس المبايعة ، إلا أن موعد خلافته نزامن مع موعد مشحون بالفتن والحوادث بعد مقتل الخليفة عثمان وما خلف قتله من قلاقل في الأمة الإسلامية.
حاول الإمام علي (ع) أن يؤجل مشروع الفتوحات الإسلامية الذي سبقه به الخلفاء الثلاثة ، لأنه رأى ـ وهو كان يرى ـ أنَّ الأمّة التي تزخر بكم بشري هائل لا يحتوي على النوع الإنساني .. أمّة تزخر بأفراد وجماعات بشرية دخلت الإسلام بالسيف أو الإكراه أو القناعة الهشة ، سوف لا يعتد عليها بأن تكوّن مجتمعاً إسلامياً يريده الله سبحانه وتعالى . لذا ؛ آثر أن يبني مجتمعاً رسالياً حقيقياً ، أفضل من أن يبني إمبراطورية إسلامية واسعة ، سرعان ما تذوب تحت أول اختبار تتعرض له في تفاعلاتها الحضارية مع القوميات والأديان التي كانت تعاصرها .. أول ستعاصرها ، أو تنهار تحت حالة التقاطع مع مصالحها الأنانية .. دون حُبِّ المجموع . فأتجه عليه السلام إلى عملية البناء العقائدي العريضة ، لذلك ؛ خلـّف لنا هذا الخليفة الحقّ ما لم يخلـّـفه خلفاء من قبل ومن بعد . فلم نرَ في أدبيات المكتبة الإسلامية .. منذ صدر الإسلام حتى سقوط الخلافتين الأموية والعباسية خطاباً تكاملياً قرآنياً إنسانياً يداني ( نهج البلاغة ) !!!
كما حاول الإمام عليه السلام أن يستبعد السيئين من عناصر السلطة التنفيذية في حكم خلافته، وحاول (ع) أن يعيد الحقوق المسلوبة إلى أهلها الشرعيين ، التي كانت تملأ جيوب الأقارب والحاشيات ـ بغير وجه حق ـ ، كما حاول أن يوزّع الخيرات بالحقّ والمساواة على عباد البلاد.
ما أحوجنا إليك يا أمير المؤمنين ، وأنت تحق الحقَّ وتزهق الباطل ، ما أحوجنا إلى خليفة يضع جمرةً في كفِّ أخيه ، بدلاً من حقِّ غيره. ما أحوجنا إلى عليٍّ جديد يوزّع الأراضي السكنية على المواطنين حسب الاستحقاقات الوطنية لا حسب المحاصصات السياسة .  
والحالة هذه ؛ والعراق اليوم يتقدمه فتية مؤمنون .. آمنوا بالله والإسلام وبالإنسانية وبالوطن ، وبمذهب الإمام علي (ع) ـ كما يدّعون ـ حريٌّ بهم أن يُنـَظـِّروا أطروحاتهم السياسية والمالية والتربوية في عراقنا الجديد بنظرية ذلك الإنسان الرسالي الصادق ، ونحن نعيش ذكرى استشهاده عليه السلام في شهر رمضان الكريـــــــــم .
***

المصادر التاريخية : 
ـ د. شاكر سلمان ـ بيعة الإمام علي (ع) للخلافة
ـ مركز الرسالة / سلسلة المعارف الإسلامية ـ الإمام علي (ع) سيرة وتاريخ