في قضية مقاهي الكرادة

 

لا يوجد عندنا فقه دولة بل يوجد فقه شخص مسلم وهو فقه ينظّم العلاقة العبادية بين الفرد المسلم وربّه، وهذا الفقه قاصر عن ادارة دولة لان الدولة اكبر من الفرد

عندما انتصرت الثورة الاسلامية في ايران، كتب السيد محمد باقر الصدر دستوراً لهذه الدولة الفتية واهداها لهم هدية انتصارهم. ابرز ما جاء في هذا الدستور هو ما قاله الصدر حينها من انه في حال وقعت الدولة في منطقة الفراغ النصّي او في منطقة التقاطع بين فقه الشخص وفقه الدولة، يُقدّم فقه الدولة على الشخص على اعتبار المدار مدار مصلحة الامة وليس مصلحة الفرد، اي الامة فوق الفرد دائماً. وهذا ربما يُقرأ من بعض المختصين على انه فقه برغماتي وصولي طالما يعمل وفق مقولة "عند الضرورات تُباح المحظورات"، لكنه اعطى هامشاً من الحرية في دولة دينية راديكالية كايران

اما نحن في العراق لا يوجد فقه دولة ابداً والاسلاميون يحكمون وفق فقههم الشخصي وهذا ما ضيّق الحريات العامة لانهم فرضوا شكل عبادتهم على الآخرين ناسين ان الدولة اكبر منهم لانها خليط من متدينين وغير متدينين بالنهاية

اذكر حين كنت مديراً لاعلام مجلس محافظة بغداد، كان احد الاعضاء المتديّنين جداً يذهب لزيارة مراجع النجف كل خميس ويستفتيهم في امور عجيبة غريبة مثل حكم استخدام القلم العائد للدائرة في امور شخصية غير التوقيع على الكتب الرسمية، او حكم اتلاف الورقة التي يخطأ في الكتابة عليها وغيرها من الامور التي لا تبني دولة بل تبني مسجداً بروحية صوفية لا تنتمي الى الارض

رغم ان الرجل كان من بين المصوّتين على زيادة رواتب اعضاء المجلس من ٦٧٥ الف دينار عراقي (وهو الراتب الذي حدّدته سلطة الائتلاف الامريكية المؤقتة لاعضاء مجلس مدينة بغداد في عام ٢٠٠٤) الى ٣ ملايين دينار (آخر راتب اسمي للاعضاء قبل ان اغادرهم ولا ادري كم يأخذون الان)، رغم ذلك، الاّ انه كان يتجشّم عناء السفر للنجف ليسأل عن حكم المقطاطة والقلم والورقة. فمن وجهة نظره، زيادة الراتب امر شرعي طالما كان تصويتاً جماعياً على المكشوف وفي وضح النهار من اصحاب الشأن، لكن الثانية (القلم والورقة) اشكال شرعي مالم يتأكد من حليّته

هذا نموذج من التشديد في غير محله، كما انه دليل على عدم وجود فقه دولة

انهم يهدمون الدولة باجهازهم على آخر معقل من معاقل المدنية

ضيّقوا على ابي نؤاس ودور السينما والمسرح ومظاهر المدنية والفرح في بغداد، واليوم يهاجمون المقاهي في الكرادة

كنّا نصلّي جماعة في مسجد الخلاني نهاراً ونذهب عند المساء انا مع اصدقاء او اقارب الى مقاهي العرصات الجميلة ونسهر حتى ساعات متأخرة. لا توجد سوى "الدومنة والطاولي" والمعشر الحلو مع الضحكة الجميلة. لا توجد سوى لهجة عربية "مكسّرة" للعمال النيباليين الذين يعملون عمال خدمة هناك

لماذا هذا الاصرار على هدم كل مظاهر الحياة المدنية؟

ان كان لابد من حكمكم فاحكموا بفقه الدولة لا بفقهكم الخاص

فقه الدولة يقبل الاختلاف والتعدّدية والتعايش مع الآخر، بينما فقهكم لا

انتم احرار في فقهكم لكنكم لستم كذلك في فقه الدولة، والاّ سيكون مصيركم مصير الاخوان في مصر. فهل من مدّكر؟