المقهى.. والجامع

 

لا أود تعقيد الموضوع الذي يبدو أوضح من أن يُعقَّد، أعني موضوع المقاهي ومحاربتها، سواء من لدن الإرهاب تفخيخا ونسفا، أو من لدن السلطات المحلية عبر التضييق عليها ومعاملتها بمنطق الحلال والحرام. لا أودُّ تعقيد الموضوع، لكنني، كالعادة، تروقني العودة لجذور الأشياء والبحوشة في غير المفكر فيه.

سأقول إنَّ بغداد حلّقت دائما بجناحين، الجامع والمقهى، الحسينية والبار. يكفي للمرء أن يلقي نظرة عابرة على تاريخ المدينة ليسمع صفق الجناحين وهما يحلقان بها منذ أن أُسست قبل أكثر من ألف عام. وبما أن المقال لا يتسع لكل تلك القرون المليئة بقرع الكؤوس والأجراس وضرب الدفوف في التكايا، فسوف أمرّ سريعا بشأننا مع المقهى حين عرفناها وأحبّبناها وجعلناها ملمحا أساسيا من ملامح مجتمعنا المحبِّ للحياة.

نعم، بغداد، منذ قرابة قرنين، مارست تحليقها القديم بجناحيها الجميلين، الدين والدنيا إذ لا تكاد تخلو محلة من مقهى وجامع، الأخير لتنظيم العلاقة مع الله والأول للاسترخاء والتواصل الاجتماعي ذي الطابع الدنيوي؛ للمتديّن أن يذهب للجامع كي يصلي أو يلطم أو يضرب على الدفّ إذا كان متصوفا، له أن يمتدَّ بعلاقته مع الخالق ما شاء له ذلك، بل له أن يخرج من الجامع متظاهرا ضد السلطة في بعض الأزمان.

بالمقابل، يستطيع غير المتدين أن يرتاد مقهاه ليقضي أماسيه لعبا ولهوا وثرثرة، له أن يذهب إلى حيث يمكنه التواصل مع لذائذه الروحية كأن يطرب مع قارئ المقام أو ينصت لمواويل المغني الريفي، أو يلعب الدومينو والنرد، أو المحيبس في رمضان.

وكما هو شأن الجامع حين يتحول إلى مثابةً للتحريض السياسي، مارس المقهى الدور ذاته في بعض الأوقات فخرجت منه أهم الأحزاب وشهدت أرائكه أعنف النقاشات السياسية والثقافية.

الجناحان يحلّقان معا ليرسما للمدينة ملمحها الذي عُرِفت به، إذ الدين والدنيا متصالحان لا يطغى أحدهما على الآخر إلا بفعل الدولة والممسكين بها. في عهد صدام، مثلا، طغى جناح اللهو على التديّن بأوامر من السلطة وتنفيذا لأيديولوجيتها، فصار الدخول إلى الجامع تهمةً قد تودي بصاحبها إلى التهلكة. بالمقابل، فتح الباب على مصراعيه أمام ثقافة اللهو حتى أنهم سمحوا بفتح البارات في المناطق الآهلة بالسكان بعد أن كانت تقتصر على مراكز المدن. وكانت النتيجة كما تتذكرون؛ بروز تديّن سياسي هو ردة فعلٍ وليس فعلا؛ بدل أن يطلق الشبّان لحاهم على وجوههم، صاروا يطلقونها في قلوبهم عنادا بالسلطة التي مُنِعتْ الطقوس وحاربتها وشجعت الكؤوس والملاهي وربتت على كتفها.

المهم أنَّ ما يراد فعلٌه حاليا لا يختلف كثيرا عما فُعِلَ سابقا، وإن كانَ على النقيض، ذلكَ أنَّ الهجمة على الغاليريهات ومقاهي الشبان سوف تُعلي جناحا على جناح، أعني الجامعَ على المقهى، وستكون النتيجة غير مختلفة عما جرى سابقا، ولكن، هذه المرة، في وجهة معاكسة. وجهة قد تنتهي بنا إلى تضخّم جناح الدنيا في دواخلنا على حساب جناح الدين.

بالأحرى، سـيكونُ هناك مقاهي وغاليريهات في أمكنة أخرى لا ندري أين يمكن توقعها، وبأي صيغة ستعيش وتتنفس.

نعم، ما جرى في الأيام الأخيرة من إغلاق عددٍ من المقاهي لدواعٍ دينية كان خطأً ينبغي تجاوزه سريعا. ذلك أن بغداد عاشت أبدا بجناحين اثنين ولا يمكن أن تحلّق بأحدهما دون الآخر.

سوف تقع على رؤوسنا إذا جرى ذلك فالحذر الحذر.